كيف تؤثر الانقسامات السياسية على الاقتصاد الأميركي؟
جاء ذلك وسط انقسامات حادة في صفوف الحزب الجمهوري، وبما يسهم في حالة من الضبابية بشأن مستقبل المشهد السياسي بالبلاد، فكيف يُمكن أن يؤثر على الوضع الاقتصادي؟ وإلى أي مدى يُمكن لتلك التجاذبات السياسية أن تلقي بظلالها على أكبر اقتصاد في العالم؟
بدأت الأزمة مع إقرار الكونغرس مشروع قانون مؤقت للتمويل في وقت متأخر، السبت، بدعم ساحق من الديمقراطيين بعد أن تخلى رئيس مجلس النواب الجمهوري كيفن مكارثي عن طلب سابق من المتشددين في حزبه بإقرار أي مشروع قانون عبر أصوات الجمهوريين فحسب.
- صوت 8 من الحزب الجمهوري المعارض (الذي يسيطر على مجلس النواب بهامش ضئيل) ضد زعيم حزبهم وانحازوا إلى 208 أعضاء ديمقراطيين، ما أسهم في الإطاحة بمكارثي على الفور.
- قاد الجمهوريين ضد رئيس مجلس النواب كيفين مكارثي، عضو الكونغرس المثير للجدل من فلوريدا مات غيتس، الذي قرر تنفيذ خطوته بعد أن أبرم رئيس مجلس النواب صفقة مع الديمقراطيين لتجنب الإغلاق الحكومي خلال عطلة نهاية الأسبوع.
- قدم غيتس، مقترحاً للإطاحة بمكارثي.. وللمرة الأولى منذ 234 سنة، صوّت مجلس النواب بأغلبية 216 صوتاً مقابل 210 لصالح مذكرة طرحها الجناح المتشدّد في الحزب الجمهوري تنص على اعتبار “منصب رئيس مجلس النواب شاغراً”.
“وضع مجهول”
يشرح المحلل الأميركي، حازم الغبرا، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” تبعات التطورات السياسية والانشقاقات الحالية على وضع الاقتصاد الأميركي، ويقول في هذا السياق: “لقد دخل الاقتصاد الأميركي كما الشارع والحكومة، إلى المجهول.. نحن أمام وضع جديد جداً، وغريب أيضاً”.
ويتابع: “بعد تنفس الصعداء مع الوصول لاتفاق بشأن تمويل الحكومة في اللحظات الأخيرة، فإن الشخص الذي كان بشكل شبه منفرد مسؤول عن نجاح المفاوضات يُخرَج من منصبه، وبالتالي أي شخص سوف يأتي بعده لن يكون مستعداً للمخاطرة بمستقبله السياسي ليُسيّر الأمور (..)”، موضحاً أن “الانشقاقات الحالية تعكس أن الضرورات السياسية باتت أهم من ضرورات الحوكمة، والمصالح الشخصية تغلب على المصلحة العامة”.
- من المقرر أن يعمل مكارثي قائما بأعمال رئيس مجلس النواب لحين انتخاب رئيس جديد. ولا يوجد حتى الآن أي مؤشر على من سيخلف مكارثي.
- أثار مكارثي حفيظة الجناح اليميني المتشدد في حزبه نهاية الأسبوع عندما تعاون مع الديموقراطيين لتمرير اتفاق مؤقت بشأن الموازنة لتجنّب إغلاق حكومي.
- يشرّع عزل مكارثي الباب أمام منافسة غير مسبوقة لخلافته قبل عام من الانتخابات الرئاسية.
- وفور صدور نتيجة التصويت، سارع عدد من النواب الجمهوريين للإحاطة بمكارثي الذي رسم ابتسامة على وجهه وتبادل وإياهم العناق والمصافحة.
وكانت قيادة الحزب الجمهوري حذّرت نواب الجناح المتشدّد من إغراق الحزب “في الفوضى”، لكنّ غايتس، الذي اشتكى مراراً من عدم احترام مكارثي الاتفاقات المبرمة مع المحافظين، ردّ قائلاً إنّ “الفوضى هي رئيس مجلس النواب مكارثي”. وأضاف بعد التصويت أنّ “سبب سقوط كيفن مكارثي اليوم هو أنّه لا أحد يثق بكيفن مكارثي”.
الغبرا، الذي كان مستشاراً سابقاً بالخارجة الأميركية، يقلل من حدة تأثر الاقتصاد الأميركي بهذه التطورات، بالنظر إلى أن “الوضع الاقتصادي بشكل عام مقبول جداً، مقارنة بوضع اقتصادات دول أخرى مثل الصين والهند وأوروبا.. اقتصادات العالم أجمع تشعر بالضغوطات التضخمية بشكل كبير، وبتبعات جائحة كورونا التي هي لا تزال مستمرة على الأقل في الناحية الاقتصادية.. وفي واشنطن الوضع العام مقبول”.
أسواق الأسهم
فيما يشير في الوقت نفسه إلى التأثير الفوري الذي شهدته أسواق الأسهم أخيراً، موضحاً أن “المستثمرين عادة ما يفضلون الهدوء بشكل عام، وأن تكون هنالك رؤية للمستقبل (أن يكون المستقبل قابل للتوقع).. وبينما دخلنا في المجهول الآن، فإن أسواق الأسهم لم تكن سعيدة بهذا الأمر، وكما رأينا الانخفاضات التي شهدتها كتعبير عن ذلك”.
وخسر مؤشر داو جونز الصناعي، الثلاثاء، 454 نقطة (بنسبة 1.3 بالمئة)، وهو أكبر انخفاض له منذ مارس إبان انهيار سيليكون فالي. كما تراجع ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 1.4 بالمئة، وكذلك ناسداك بنسبة 2 بالمئة.
وسجلت مؤشرات “وول ستريت” التراجع الفصلي الأول في 2023 (سجل المؤشر “ستاندرد اند بورز 500” تراجعاً نسبته 3.65 بالمئة خلال الربع الثالث، كما تراجع ناسداك بنسبة 4.12 بالمئة، وهبط داو جونز بنسبة 2.62 بالمئة).
ويلفت المحلل الأميركي في معرض حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن هنالك حالة من عدم الوضوع بالنسبة لنقاط أساسية، منها ملف سقف الدين العام “مكارثي خسر وظيفته بسبب تمريره لحزمة الإنفاق الحكومي، فكيف سيتصرف الشخص القادم خلفاً له، وماذا ستكون أولوياته؟ هناك الكثير من الأسئلة وإشارات الاستفهام التي ينتظر المواطن الأميركي إجابة عنها”.
ويضيف: “من جهة الإنفاق الحكومي، فأعتقد بأن الطرفين سيتوصلان لاتفاق من نوع ما، لم تتضح معالمه ولكن من المتوقع أن يكون هناك اتفاق في مرحلة معنية قبل نهاية الأسابيع المقبلة”.
الانشقاقات السياسية
وفي الوقت نفسه لا يعتقد الغبرا بأن تكون هنالك تأثيرات على المدى الطويل للانشقاقات السياسية الراهنة على أسواق المال الأميركية (في إشارة لكون التأثيرات الحالية على تأثيرات فورية على المدى القصير)، لا سيما وأن هذه الانقسامات محسوبة، وبالتالي تأثيرها لن يظهر على المدى الطويل إلا إذا كانت هنالك تحركات غير مقبولة من قبل أفراد أو مجموعات داخل الكونغرس للضغط في موضوع الدين العام”.
ويستطرد: “الخوف الأساسي هو أن تصل الحكومة إلى مرحلة أنها لا تستطيع سداد مستحقات ديونها، وهو أمر معقد جداً وجديد وغير مسبوق.. لكن الجميع يدرك أن هذا خطاً أحمر”.
ويواجه الاقتصاد الأميركي عديداً من الإشكاليات الواسعة، من بينها الضغوط التضخمية، والتي يتبنى بنك الاحتياطي الفيدرالي سياسة نقدية متشددة من أجل السيطرة عليها، فيما تُظهر المؤشرات الصادرة أخيراً اتجاهات متزايدة للاستمرار في تلك السياسية، مع علامات استمرار معدلات التضخم.
آخر تلك المؤشرات، المسح الشهري الذي تجريه وزارة العمل، والذي بيّن زيادة فرص العمل في الولايات المتحدة على غير المتوقع في أغسطس، وهو ما قد يدفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بدوره، إلى رفع أسعار الفائدة الشهر المقبل.
- بحسب البيانات الصادرة يوم الثلاثاء عن فرص العمل ومعدل دوران العمالة، فإن فرص العمل أو الوظائف الشاغرة، وهي مقياس للطلب على العمالة، قفزت 690 ألفا إلى 9.610 مليونا في اليوم الأخير من أغسطس.
- عُدلت بيانات يوليو بالرفع لتظهر وجود 8.920 مليون فرصة عمل بدلا من 8.827 مليون في القراءة السابقة.
- كان اقتصاديون استطلعت رويترز آراءهم قد توقعوا وجود 8.800 مليون فرصة عمل في أغسطس.
وتسارع معدل التضخم السنوي في أميركا خلال أغسطس الماضي، بأكثر من المتوقع بسبب الزيادات في أسعار الوقود، الأمر الذي يضع ضغوطا على الفيدرالي الأميركي بشأن إنهاء موجة التشديد النقدي.
وأظهرت بيانات وزارة العمل الأميركية، ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين، خلال أغسطس، بأكبر وتيرة في 14 شهرا، مسجلا 3.7 بالمئة على أساس سنوي، مقابل 3.2 بالمئة في يوليو. وعلى أساس شهري ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة 0.6 بالمئة، كما هو متوقع، بعد أن ارتفع 0.2 بالمئة فقط في يوليو.
أزمة ثقة
من جانبه، يقول مؤسس مركز بروجن للدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية، الدكتور رضوان قاسم، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الانقسام السياسي الذي تشهده الولايات المتحدة الأميركية ستكون له تبعات كبيرة جداً ومؤثرة على المشهد بشكل عام، سواء سياسياً أو اقتصادياً وحتى أمنياً.
ويضيف: “ترتد تبعات الانقسام بنتائج سلبية جداً على الاقتصاد الأميركي.. وبعد أن خُدِعَ مكارثي من الديمقراطيين والجمهوريين، ومع تمرير الكونغرس مشروع قانون مؤقت للتمويل وبما جنب مخاطر الإغلاق الحكومي (..)”.
ويعني أي إغلاق أن معظم موظفي الحكومة البالغ عددهم أربعة ملايين شخص لن يتلقوا رواتبهم سواء كانوا يعملون أو لا، كما سيؤدي إلى إغلاق مجموعة من الخدمات الاتحادية من المتنزهات الوطنية إلى الهيئات التنظيمية المالية.
وكانت الوكالات الفيدرالية قد وضعت بالفعل خططا تفصيلية توضح الخدمات التي ستستمر مثل فحص المطارات ودوريات الحدود، وما يجب إغلاقه بما في ذلك البحث العلمي والمساعدات الغذائية لسبعة ملايين من الأمهات الفقيرات.
ويوفر القانون 45 يوما أخرى من التمويل للحكومة الفيدرالية، وهو ما يكفي للاستمرار حتى منتصف نوفمبر، ولكنه لا يوفر أموالا إضافية لمساعدة أوكرانيا في الحرب.
يعكس ذلك أن “الاقتصاد الأميركي غير مستقر” طبقاً لقاسم، وفي خطٍ متوازٍ مع معدلات التضخم (التي هي لا تزال بعيدة عن مستهدفاتها البالغة 2 بالمئة) علاوة على ما تعكسه الأمور بشأن الموازنة من تباينات واسعة، والاختلاف حول أولويات الإنفاق، سواء فيما يتعلق بتركيز الأولويات على الداخل الأميركي، لجهة الصحة والتعليم وخلافه، أو تكثيفها على الخارج فيما يتصل بدعم أوكرانيا في مواجهة روسيا وكذلك دعم بعض الدول الأخرى (..)”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العجز المالي المرتفع باستمرار يشكل أحد العوامل التي تؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض. فيما ارتفع الدين العام إلى أكثر من 32.3 تريليون دولار هذا العام. وارتفعت الديون إلى ما يقرب من 120 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي.
ويتابع قاسم، الذي تحد عن أزمة الثقة الحالية التي يواجهها الشارع الأمريكي: “هذه الأمور تعكس جانباً من الحلل، ومن عوامل الضعف الذي يواجه الاقتصاد الأميركي فيما يخص تباين وضعف الرؤية الاقتصادية على الصعيدين الداخلي والخارجي.. صحيح أن الإشكاليات التي يواجهها اقتصاد أميركا واضحة وسابقة لهذه التطورات الأخيرة، إلا أنها تظهر على السطح بشكل أكبر من أي وقت مضى في المرحلة الحالية، بما يدل على أن هنالك أزمة اقتصادية في الداخل كانت القوة الاقتصادية الاميركية تجعلها لا تظهر كثيراً على الواجه”. ويؤكد أن الشارع الأميركي يشعر بتلك الأزمات ويتاثر بها، فضلاً عن التبعات المتعلقة بانعاكساتها الخارجية، في ظل الضعف والتخبط الذي تعاني منه الإدارة السياسية.
ضغوط تضخمية
وتأتي تلك الإشكاليات المحتدمة في وقت يعاني فيه الاقتصاد الأميركي جراء تبعات الضغوط التضخمية، التي من المرجح أن تتواصل بما يعزز اتجاه الفيدرالي إلى مواصلة رفع أسعار الفائدة.
وتماشى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، مع معظم التوقعات في اجتماعه الأخير، وأبقى على معدلات الفائدة كما هي دون تغيير. وقال البنك في بيان له إن قرار لجنة السوق الفيدرالية المفتوحة، الإبقاء على سعر الإقراض الرئيسي بين 5.25 بالمئة و5.50 بالمئة، يمنح المسؤولين الوقت “لتقييم المعلومات الإضافية وتبعاتها على السياسة النقدية”.
وأظهرت توقعات الفيدرالي، أن أسعار الفائدة قد تظل مرتفعة لفترة أطول من أجل خفض التضخم إلى الهدف المحدد، فبينما ثبت توقعاته لمعدلات الفائدة هذا العام عند 5.6 بالمئة، فقد رفعها للعام المقبل إلى 5.1 بالمئة مقابل 4.6 بالمئة في التوقعات السابقة، وكذلك الحال في عام 2025، حيث رفع توقعاته للفائدة عند 3.9 بالمئة، مقابل 3.4 بالمئة في التوقعات السابقة.
وأكد رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول من جديد اعتقاد البنك المركزي بأنه يحتاج إلى إبقاء أسعار الفائدة أعلى لفترة أطول ليأخذ في الاعتبار حقيقة أن النمو صمد بشكل مدهش في أكبر اقتصاد في العالم.