لحظة بلحظة

صدور ألف ليلة وليلة في طبعة جديدة منقحة


في البدء كان النص ما بعد الاستعماري ثم كان التنظير والنقد

* تقترح بومر أنه بدلاً من تعريف أدب ما بعد الاستعمار بأنه الكتابة التي جاءت في أعقاب الإمبراطورية، ينبغي أن تُرى أنها الكتابة التي تقاوم وتعارض وجهات النظر الإمبريالية

لا يمكن أن يوجد نقد أو نظرية من دون نصوص سابقة على وجودهما. فقبل «بوطيقيا أرسطو» (نظريته عن المسرح) على سبيل المثال، والأمثلة كثيرة، كانت مسرحيات أسخيلوس وسوفوكليس وأرستوفين ويوربيديس سبب وجود النظرية الأرسطية، مثلما كان الشعر العربي سبب وجود بحور وأوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي، فالفراهيدي لم يبتكر أو يستنبط بحوره وأوزانه من الهواء، لم ينشئها من اللاشيء. وينطبق الكلام نفسه على آداب ونظرية ما بعد الاستعمار. ففي البدء، كان النص ما بعد الاستعماري، ثم كان التنظير والنقد. على خلفية كهذه من الفهم للعلاقة بين النص والنقد أو النظرية، جاء تساؤل د. حمزة عليوي: «هل لدينا أدب ما بعد الاستعمار ليكون لدينا نقد له؟» على رأس مقالة كتبها تعقيباً على مقالة د. سعد البازعي: «النقد ما بعد الاستعماري… لِمَ لم يتطور في العالم العربي؟».

بن أوكري

قد كفاني د. عليوي مؤونة طرح الأسئلة التي أرى أنه ينبغي طرحها عن وجود أدب عربي ما بعد استعماري، أو عن عدم وجوده، ومن ثم السعي إلى الإجابة عنها قبل الإسراع إلى التساؤل عن عدم تطور النقد ما بعد الاستعماري في العالم العربي، وقبل طرح ما قد يراه البعض اتهاماً للنقاد العرب بالتقصير والعجز، وعدم الالتفات، على نحو جاد، حسب د. البازعي، «إلى أثر الاستعمار في الرواية أو الشعر أو المسرح إلا من باب التأثر بالآخر، وهذا ما ليس يعنى به النقد ما بعد الاستعماري».

جاء تجاوبي مع مقالة د. البازعي، المعبر عن اختلافي معه حول ما طرحه، على شكل سلسلة قصيرة من الـ«رُبَّمات» (جمع ربما) لأنني بصراحة لا أملك المعرفة التي تؤهلني للتحدث عن الموضوع حديث العارف المتيقن. فكانت أول ربما، ربما لا توجد نصوص أدبية عربية ما بعد استعمارية؛ ثم ربما تكون موجودة ولكن غير متوفرة بسهولة في متناول الناقد، وربما موجودة ولكن لم يجد فيها النقد ما يدفعه إلى التطور، وربما قليلة جداً لدرجة أنها لم تشكل ما يَعُدُّه إيان آدم وهيلين تفن أرشيف ما بعد الاستعمار الأول، ويذكرانه في مقدمة الكتاب الذي جمعا وحررا مادته بالعنوان «بعد البَعْد الأخيرة… تنظير لما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة» الذي صدر في 1990، أي بعد عام من صدور «الإمبراطورية ترد بالكتابة… النظرية والتطبيق في آداب ما بعد الاستعمار، 1989» الذي شاركت هيلين تفن في تأليفه مع بيل آشكروفت وغاريث غريفيثس.

يُعرِّف آدم وتِفن ما بعد الاستعمار / الكولونيالية بتوضيح أنها تتألف من أرشيفين؛ يؤسسها الأرشيف الأول ككتابة متجذرة في «المجتمعات التي شكلت ذواتها جزئياً القوةُ المُخْضِعة للاستعمار الأوروبي، أي الكتابة الصادرة من البلدان أو الأقاليم التي كانت مستعمرات لأوروبا في السابق». أما الأرشيف الثاني لما بعد الاستعمار فيتمثل في منظومة الممارسات الخطابية، التي من أبرزها مقاومة الاستعمار والآيديولوجيات الاستعمارية وأشكالهما المعاصرة. والعلاقة بين الأرشيفين قوية، وفي غاية الوضوح، فالأرشيف الأول، أدب ما بعد الاستعمار، يشكل خطاباً له دوره الهام والفاعل في مقاومة الاستعمار بكل أشكاله وتمظهراته.

آشكروفت

إن مقاومة الاستعمار بكل بأساليبه وممارساته المعاصرة أيضاً، في صميم تنظير وتعريف إِلِكَه بومر لأدب ما بعد الاستعمار في كتابها الموسوم «أدب الاستعمار وما بعد الاستعمار، 1995». تُعَرِّفُ بومر ما بعد الاستعمار بأنه «الوضع الذي يسعى فيه المُسْتَعْمَرُون إلى أخذ مكانهم كذوات تاريخية سواء بالقوة أم بغيرها». وتقترح أنه بدلاً من تعريف أدب ما بعد الاستعمار، على نحو ضيق، بأنه الكتابة التي جاءت في أعقاب الإمبراطورية، ينبغي أن تُرى أنها الكتابة التي تقاوم وتعارض وجهات النظر الإمبريالية، وأنها جزء لا يتجزأ من عملية التحرر من الاستعمار. وتضيف أن أدب ما بعد الاستعمار يسهم في مشروع «الترميم الرمزي» الذي يتطلبه إنهاء الاستعمار من خلال «التقويض الشكلي والثيمي للخطابات التي دعمت الاستعمار؛ أساطير القوة، تصنيفات الأعراق وصور التبعية» .

إن الأرشيف الأول ذاته هو موضوع التنظير والتطبيق في «الإمبراطورية ترد بالكتابة» كما في كتاب إلكه بومر، وهو في الحقيقة أدب أو آداب المستعمرات البريطانية السابقة، أدب دول الكومنولث كما كان يسمى سابقاً، فـ«ما بعد الاستعماري» اسم جديد لأدب قديم، أو «أدب الروح الصاعدة حديثاً» كما تنقل بومر عن الروائي والشاعر والسيناريست النيجيري – البريطاني بن أوكري. إنه أدب المستعمرات التي تركت فيها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس لغتها وشكسبير والكريكيت مثلما تركت مقابرها وسجونها ومعتقلاتها. فالإمبراطورية حين ترد بالكتابة على المركز البريطاني الاستعماري في أوروبا إنما ترد بالإنجليزية، أو بالإنجليزية التي تبدأ بحرف «e» أو بالإنجليزيات، إذ لكل مستعمرة «إنجليزيتها» التي تختلف عن الإنجليزية في أي مستعمرة أخرى حسب آشكروفت وزميليه. وهذا ما لم يحدث في العراق ومصر والسودان وغيرها من أجزاء الوطن العربي التي تعرضت لشكل من أشكال السيطرة والهيمنة البريطانية. وهذا ما يجعل الاستعمار هنا مختلفاً عن الاستعمار هناك مع وجود قواسم مشتركة بينهما؛ المقابر، مثل المقبرة الملكية البريطانية في العراق التي ذكرها د. عليوي في مقالته، والسجون كالسجن الذي تصدّر اسمه أخبار الحرب الدائرة حالياً بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان، سجن «كوبر».

أسس الإنجليز في الخرطوم بحري في 1903 السجن الذي أصبح يعرف باسم «كوبر»، أول مسؤول إنجليزي تولى إدارته. وبعد تحرر السودان من الاحتلال، تولى إدارته الحكمدار مصطفى سعيد، الذي لا أعتقد أن يمر اسمه دون أن يستدعي إلى الذاكرة مصطفى سعيد الشخصية المركزية في رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال».

لم يكن سجن «كوبر» سوى حلقة واحدة في سلسلة السجون والمعتقلات التي بنتها الإمبراطوريات الاستعمارية البريطانية والفرنسية والإيطالية في أفريقيا وآسيا ومنطقة المحيط الهادي، يُزَّجُ فيها بالمتهمين بالانشقاق السياسي والمناضلين الوطنيين والأسرى في الحروب الاستعمارية. وعلى خريطة السجون الشاسعة هذه، تبرز جنوب أفريقيا بكونها المكان الذي شهد بناء أول السجون في أفريقيا، ولا يفوتني هنا أن أشير إلى قصة أشهر سجين ومعتقل سياسي، ليس في أفريقيا فحسب، بل في العالم كله؛ نيلسون مانديلا. قضى مانديلا 18 سنة في سجن جزيرة روبن آيلاند، الذي يعد من أشهر السجون في العالم، إن لم يكن أشهرها على الإطلاق لارتباطه بمانديلا.

أما عربياً، فربما يكفي أن أمر مروراً سريعاً ببحث عبد القادر فكاير «الجزائريون في السجون والمعتقلات والمحتشدات ومراكز التعذيب أثناء الثورة الجزائرية»، الذي يروي فيه تاريخ السجون والمعتقلات التي أقامتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية في طول وعرض بلد المليون شهيد. لقد «تفنن» المستعمر الفرنسي في بناء أنواع مختلفة من السجون والمعتقلات، فلكل سجن وظيفته الخاصة؛ المحتشدات التي تجاوز عددها 2500 محتشداً، و«قُذِفَ» فيها بحوالي 3 ملايين جزائري، أقامت الإدارة الاستعمارية الفرنسية المحتشدات بعد أن ضاقت السجون بالسجناء؛ والمعتقلات، وكان الغرض من إنشائها تخفيف العبء على السجون، هذا بالإضافة إلى مراكز التعذيب والسجون. يقول فكاير: «لقد كان في كل مدينة سجن، بل أصبحت الجزائر كلها سجن».

لقد كانت سجون ومعتقلات المستعمر في الجزائر وغيرها من المستعمرات فضاءات للتعذيب والتنكيل بالمُسْتَعْمَرِين، وممارسة التمييز العنصري في المعاملة بين السجناء من السكان الأصليين والسجناء الغربيين في حال وجودهم كما يذكر فرانك فيكتور في ورقته المعنونة بـ«فردوس للأوغاد… الاستعمار والعقاب والسجن في هونغ كونغ 1841 – 1898». كان المُسْتَعْمِرُ يمارس في هذه السجون كل ما كان ممنوعاً، ولا يسمح به القانون في السجون في المراكز الاستعمارية، من أنواع التعذيب والاستنطاق.

يقول د. عليوي في مقالته آنفة الذكر «بعد حين سأفكر بمشهد الدبابات الأميركية وهي تغادر العراق، فلا تخلِّف وراءها سوى الغبار ومدن مدمَّرة!». وأضيف أن شيئاً آخر سيبقى في ذاكرة العراقيين وفي ذاكرة العالم كله أو بعضه بعد مغادرة القوات الأمريكية؛ صور أجساد السجناء العراقيين العارية في سجن أبو غريب.

ما رواه عبد القادر فكاير جزء من الأرشيف غير الكامل والمطمور لتاريخ السجون الاستعمارية في العالم العربي. ويبقى السؤال؛ ألا يوجد أرشيف للأدب ما بعد الاستعمار العربي؟!

* كاتب وناقد سعودي



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى