حرب روسيا وأوكرانيا: حينَ يكون العمرُ أكبر الخسائر
- سامي جروان
- بي بي سي نيوز عربي
بحثاً عن شيء ما أو هرباً من آخر، اغترب أكثر من ألفين وخمسمئة أردني في أوكرانيا قبل اندلاع الحرب، ولكن بعدها وفي وقت فضّل عددٌ منهم التمسّك بمسار حياته على العودة لبلاده، حزم آخرون أمتعتهم للّجوء إلى وطنهم من جديد، ومن بين هؤلاء الطبيب سلطان العسيري، الذي ترك خلفه سبعة عشر عاماً عاشها في أوكرانيا، ومنزله وعيادته.
يقول العسيري عن الفترة الأولى من عودته: “كان الظرف صعباً للغاية، لم أكن أعلم أين سأكمل حياتي، ما إذا كنت سأعود وما إذا كانت الحرب ستنتهي قريباً، وطاردتني الكثير من الأفكار حول بيتي وعيادتي اللتين تركتهما ورائي، والمستقبل المجهول الذي ينتظرني في هذا المكان الجديد، والمختلف رغم أنه وطني الأم، كنت قد اعتدت على طريقة حياة لأكثر من سبعة عشر عاماً، وهو ما صعّب المهمّة من أجل التأقلم، ودخلت في نوبة اكتئابٍ حادّة، وشعرت بأني خسرت كلّ شيء”.
لكن، وبعد قبول الخسارة أحياناً، تبدأ أول خطوة باتجاه الفوز، فلم يكن بوسع العسيري انتظار المجهول للّانهاية، وقرّر البحث عن عمل وتجاوزِ فكرة امتلاك عيادته الخاصة وإدارتها، واستطاع بعد فترة الحصول على وظيفة قللّت عليه من وطأة الظرف وبدأ الوقت بالمرور شيئاً فشيئاً حتى أنه توقف عن متابعة الأخبار التي كان يترقبها كبارقة أمل للعودة.
رحلة العودة أثناء الحرب
بدأت فكرة انتهاء الحرب والعودة لأوكرانيا تفتُرُ تدريجياً في ذهن العسيري، وأصبح من الضروري له أن يعود للعاصمة كييف لإنجاز بعض الأمور المتعلقة ببيته وعيادته، في رحلة وصفها بالمغامرة الجديدة، فعندما غادر المدينة قبل عام، كان قد ترك سيارته في رومانيا فاضطر للعودة هناك بداية ومن ثم التوجه إلى أوكرانيا.
” تأثرت كثيراً عندما وصلت الحدود الأوكرانية بسبب التحول الذي شاهدته، وكيف تغيرت منذ غادرتها عن الآن”
ورغم أن الطريق لكييف كانت بعكس توقعاته ولم يواجه الحواجز الأمنية التي مرّ بها عندما غادرها، إلا أنه اضطر للنوم في سيارته على حدود العاصمة حتى صباح اليوم التالي، بسبب حظر التجول، ولم تكن تلك إلّا بداية لما سيواجههُ هناك.
“اعتقدت أن هذه المهمة ستستغرق أسبوعاً فقط، لكن العاصمة تعرضت آنذاك للقصف، الذي دمّر ستين بالمئة تقريباً من مولدات الكهرباء، وأصبحت معظم الدوائر الحكومية دون كهرباء، وأحياناً دون موظفّين، إذ كانوا يفرّون من القصف إلى الملاجئ، وهو ما يبطئ آلية إتمام المعاملات، حتى أن مهمة اليوم تستغرق أسبوعاً، أما الجلوس في عزلة عن العالم بسبب انقطاع الكهرباء فهو قصّة أخرى بحد ذاته”
اليوم وبعد انقضاء هذا الوقت، أصبحت أصغر التفاصيل بالنسبة لسلطان تحدٍّ لا يستهان به، فللمثال ليس الحصر، تشكّل أبواق المركبات وسلوك القيادة في الأردن لسلطان محفزّاً لهرمون الكورتيزول المسؤول عن التوتر، ويشعر أن الناس هنا في عجلة من أمرهم في كلّ شيء، وهو ما لم يعتده في حياته وكما يقول “الطاقة السلبية في كل مكان، وبصلة الناس محروقة” حتى أنه اعتاد أن يسير لأكثر من ثمانية كيلو مترات على الأقدام، في طريق عودته من مكان عمله للمنزل، وهذا جزء من العموم الذي لا يريد سلطان لابنه الذي لم يتجاوز الثانية من عمره أن يعيشه ويعيش فيه، فمن وجهة نظره، ليست هذه المعطيات التي ستجعله مطمئناً على مستقبل ابنه وآفاقه.
العودة لنقطة الصفر
على جانب آخر من عالم العسيري، عاد أكثرُ من مئتي طالب للأردن بسبب الحرب، فيما بقي هناك آخرون لأن تكاليف عودتهم باهظة، كما قال أيهم الطرمان ممثل هؤلاء الطلبة، والذي غادر مقاعد الدراسة في تخصص الطب بعد أن كانت الشهادة قاب قوسين أو أدنى من متناول يده، ما أعاده لنقطة الصفر كما يقول.
“قبل سنة من اليوم كانت حياتي طبيعية، لدي حياتي الجامعية والدراسية، كنت مستقرّاً ومكتفياً، ولم أكن أعاني من مشاكل أكاديمية، أو من استغفال المسؤولين للمواطنين، كنت بعيداً عن كل هذه الفوضى التي أتعبتني نفسياً. وهذه ليست مشكلتي حصراً، بل معظم الطلبة الذين عادوا من أوكرانيا بعد الحرب، وأنا أمثلهم هنا، لقد كانت أوكرانيا لنا خياراً مناسبا ونعمة نفتقدها اليوم في ظل ما نواجههُ هنا من غلاء معيشي ورسوم دراسية مرتفعة”
عودة الطلبة للأردن واجهت العديد من العوائق المتعلقة بالحصول على أوراقهم من الجامعات الأوكرانية ونظام احتساب الساعات الدراسية واعتماد الجامعات والرسوم التي ستترتب على الطلبة في حال التحقوا بجامعات أردنية، ما كبدّ الطلبة خسائر متعددة كما يقول أيهم.
“عندما عدنا للأردن تكفلت كل من وزارة الخارجية والتعليم العالي بجلب أوراقنا الجامعية من أوكرانيا، حتى إن وزارة التعليم العالي اقترحت علينا آنذاك البحث عن جامعات خارج الأردن، وعليه انتظرنا الحصول على أوراقنا للتوجه إلى جامعات خارجية، إلا أنه وللأسف عجزت الوزارتان عن الوفاء بوعدهما، والذي نعتبره حقًا لنا كطلبة أردنيين لأننا لا نستطيع مخاطبة حكومات، لذلك لم يكن لنا خيار سوى الالتحاق بجامعات أردنية مقابل خسارة في سنواتنا الأكاديمية بلغ بعضها الثلاث سنوات، أي أن طالب السنة الرابعة سيعود لسنة أولى أو ثانية.
ووُعدنا أيضا في اجتماع منفصل مع لجنة التعليم النيابية ووزير التعليم آنذاك و.ع بأننا سنُعامل كسابقتنا من طلبة السودان واليمن بعد عودتهم نتيجة الأحداث هناك، وأننا سندفع نصف الرسوم الموازية لتخصصات الطب مقابل خسارتنا الأكاديمية، إلا أن ذلك لم يحدث أيضاً، فبعد التعديل الحكومي الذي أزاح و.ع من منصبه قال لنا الوزير الجديد ع.م إنه يرفض هذه الفكرة بزعم أننا أخذنا حقّنا وأكثر. كيف له أن يقول لنا ذلك وعلى بلدنا أن تتكفل بنا وبوضعنا؟! أما رئيس الجامعة فاعتبر أنه قام بما عليه عندما تم قبولنا دون أوراق”.
يتنهد أيهم ويتابع: “الخسائر التي تكبّدناها لا تعد ولا تحصى، هناك سنوات أكاديمية أنجزتها والآن خسرتها، وعدت للصفر، ناهيك عن المبالغ الباهظة التي تفرضها علينا الجامعة لقاء النظام التعليمي الموازي، أما الخسارة الأكبر والأهم من ذلك كله هي عمري.
ولن أتطرق هنا لما واجهناه في طريق عودتنا أثناء الحرب، من دموع والدي خوفاً على مصيرنا، أو لحظات الرعب التي عشناها حين نمنا داخل قطار في منتصف غابة والطيران الروسي يحلق فوقنا وفي منتصف الليل، ولا أقول ما أقوله لاستعطاف أحد، أنا فقط أطالب بحقي في تطبيق القانون”.
لم تكن خسائر العودة مقبولة لبعضٍ آخر من الأردنيين، ففضّلوا البقاء داخل حدود الحرب رغم المخاطر اللّا متناهية، فقد تكون من وجهة نظرهم حرباً أقلّ كلفة من تلك التي سيخوضونها بأنفسهم في أوطانهم.