زلزال تركيا وسوريا: إنقاذ شقيقتين من تحت الأنقاض في تركيا بعد نحو ستة أيام من الكارثة
- نفيسة كوهنافارد
- بي بي سي – أنطاكيا
ينادي عامل الإنقاذ مصطفى أوزتورك “ميرف! إيريم!” بينما صدرت تعليمات للجميع بالتزام الهدوء. ففرق البحث تحاول الوصول إلى شقيقتين رجح ناجون آخرون أنهما على قيد الحياة تحت الأنقاض.
واستخدم المنقذون أجهزتهم الحساسة لسماع أي رد من تحت الركام بينما تجمد الجميع وهم في حالة ترقب لما قد يظهر.
بعدها تظهر إشارات إلى تقدم في عملية البحث، ويقول مصطفى: “إيرم، عزيزتي إيريم، أنا قريب منك، هل تسمعينني؟”
لا يستطيع أحد سماع شيء أثناء مراقبة المشهد، لكن من الواضح أنها بدأت ترد، بينما كانت مجموعة من صديقات الفتاة ينتظرن معنا في صمت.
يستطرد عامل الإنقاذ: “يا لك من رائعة، الآن اهدئي وأجيبيني. آها، إن لدينا ميرف أيضا. ميرف عزيزتي، فقط ردي على أسئلتي”.
وعلقت ميرف، 24 سنة، وشقيقتها إيريم، 19 سنة، تحت أنقاض مبنى سكني من خمس طوابق في أنطاكيا جنوبي تركيا، والذي انهار بسبب الزلزال، وظلا تحت الأنقاض ليومين مرا عليهما وكأنهما أسابيع طويلة.
واستمر المنقذ في الحديث إليهما عبر الركام: “اليوم الأربعاء، أليس كذلك! بالتأكيد لم يمر عليكما 14 يوما تحت الأنقاض. أمهلونا خمس دقائق وسوف نخرجكم”.
يعلم مصطفى تماما أن إخراج الشابتين قد يستغرق ساعات، لكنه يقول لنا: “إذا فُقدتا الأمل، فقد تضيع فرص النجاة”.
بدأت ميرف وإيرين في المزاح والضحك بينما أنا هنا أستطيع أن أرى ابتسامة عريضة رُسمت على وجه مصطفى وهو يقول: “لو كانت لديهما مساحة كافية، لبدتأ الرقص”.
وبحسابات المنقذين، يتبقى متران بين الفريق والشقيقتين، لكن قائد فريق الإنقاذ حسن بيناي أكد أن حفر نفق في كتل الخرسانة عملية دقيقة للغاية وأي خطأ فيها قد يؤدي إلى كارثة.
وطلب المنقذون جرافة لترفع برفق كتل الخرسانة السميكة وتمسك بها حتى تحول دون انهيار المبنى عندما يبدأ الحفر.
وينادي مصطفى: “يا فتيات، سوف نوفر لكم البطاطين بعد قليل. لا تقلقوا بشأننا، فلا نشعر بالبرد ولا بالإرهاق.”
يقول مصطفى إن ميرف كانت قلقلة بشأن عمال الإنقاذ. فالساعة الثامنة والنصف مساء بالتوقيت المحلي بينما تمر المنطقة بأحد أكثر فصول الشتاء برودة في سنوات طويلة.
وبدأ المنقذون بالفعل في الحفر وإزالة الأنقاض بأيديهم دون استخدام معدات.
لكن بعد ساعات قليلة، شعرنا بأن الأرض تهتز تحت أقدامنا. وكان يجب أن تتوقف عملية الإنقاذ وأن نبتعد جميعا عن المبنى المتداعي.
وقال حسن: “هناك واقع قاسي علينا أن نواجهه هنا. فسلامة فريقنا لها الأولوية”.
وبعد 30 دقيقة، عاد مصطفى وثلاثة من فريق البحث والإنقاذ إلى العمل في المكان الذي كانوا يحفرون فيه.
وبدأ مصطفى يصيح ثانية: “لا تخافوا، صدقوني لن نترككم هنا. سوف أخرجكم، وسوف تدعوننا إلى غداء رائع”، قال مصطفى ذلك بعد أن ظنت الشقيقتان أنهما سوف تتركان لمواجهة الموت تحت الأنقاض.
وانتصف الليل بعد ساعات من استئناف الحفر بينما لم يكن أي من أعضاء فريق البحث والإنقاذ قد نال قسطا كافيا من النوم. وتجمعنا حول النار للتدفئة بالقرب من المبنى.
وبين الحين والآخر، كان يتردد نداء بكلمة “سيسيزليك” التركية، ومعناها “هدوء”. وأطفأت الأنوار في الموقع ليتحول إلى ظلام دامس بعد أن أحدث المنقذون ثقبا في الخرسانة ليعرفوا ما إذا كانت الفتاتان سوف تتمكنا من رؤية شعاع النور الذي يوجهه نحوهما مصطفى بمصباح الطوارئ.
وقال مصطفى: “ميرف! إيريم! هل ترون النور؟ حسنا! رائع! سوف أنزل إليكم كاميرا صغيرة. وبمجرد أن ترياها، أخبراني وسوف أخبركم بما عليكما القيام به”.
كانت لحظة فرحة للجميع. ينضم حسن إلى فريقه لمشاهدة الفتاتين على شاشة صغيرة متصلة بكاميرا إضاءة ليلية. الآن يمكنهم رؤية إيريم وميرف.
وقال مصطفى: “يا لكما من جميلتين، لا تتحركا كثيرا. اجذبي الكاميرا يا إيريم حتى نستطيع أن نرى ميرف بوضوح أكثر”.
بدأ الارتياح يظهر على وجوه الجميع، إذ يبدو أن الفتاتين بخير، كما أن إيريم على الأقل لديها مساحة يمكنها أن تتحرك فيها وتخرج إذا أحدثوا فجوة أكبر”.
لكن الخوف بدأ يتسلل إلى الفريق مرة أخرى. فقد أخبرتهم ميرف أنها بدأت تشعر بالبرد وأن شيئا ثقيلا على قدمها.
وبدأ المسعفون في الموقع يتسائلون فيما بينهم بقلق: “هل أصيبت قدم ميرف بالغرغرينة؟ أم هي بداية لأعراض انخفاض حرارة الجسم؟”.
وفي الخامسة صباحا، كانت الفجوة قد اتسعت بما فيه الكفاية لإدخال أكثر أعضاء فريق الإنقاذ نحافة ليزحف في اتجاه الفتاتين، وبالفعل وصل إليهما وتمكن من الإمساك بيد إيريم لدقائق.
وقالت إيريم للمنقذ: “جثة أمنا بدأت تتعفن، ولم نعد نستطيع التنفس جيدا”، إذ كانت الفتاتان تتمددان إلى جوار جثة أمهما لعدة أيام.
كان المشهد مروعا، وبدأنا جميعا نتصور كم هو فظيع أن تكون هناك لحظات في الحياة لا يرغب المرء في أن يكون إلى جوار أمه.
وطلب حسن من إحدى صديقات ميرف – التي كانت تقف صامتة ومتوترة – أن تريه صورا للفتاتين، إذ يحاولون تقدير العرض المطلوب للفجوة التي يمكنهم أن يخرجوا الشقيقتين عبرها. وكانت هناك صورة للفتاتين وهما ترتديان فساتين وعلى وجهيهما ابتسامة عريضة في حفل زفاف.
وأعلن صوت من فريق الإنقاذ: “رائع، يمكننا إخراجهما”. استعد المسعفون بالبطاطين الحرارية والنقالات. كانت الساعة السادسة والنصف صباحا بالتوقيت المحلي عندما أخرجوا إيريم أولا، وكانت الفتاة تبكي وتضحك في نفس الوقت.
وقالت إيريم: “بارك الله فيكم، أرجوكم أخرجوا ميرف أيضا”، متوسلة للمنقذين. فرد عليها حسن، قائلا: “سوف تأتي ميرف، أعدك بذلك”.
لكن إخراج ميرف تطلب 30 دقيقة أخرى من التوتر. فكان عليهم أن يحرروا قدميها العالقة تحت الخرسانة دون أن يلحقوا بها أي ضرر، وبالفعل نجحت العملية.
وبمجرد خروج ميرف، بدأ الجميع يصفقون ويهتفون. سمعت ميرف وهي تصرخ من الألم، لكنها بعد ذلك صرخت متسائلة: “هل أنا حقا على قيد الحياة؟”.
فأجابها مصطفى مبتسما: “نعم يا عزيزتي”.
وبدأ أصدقاء الشقيقتين – الذين لم يفارقوا الموقع طوال الليل – الصراخ والدموع تنهمر من عيونهم بينما يعلو هتافهم “ميرف! إيريم! نحن هنا، لا تخافا”.
بعد ذلك، نقلت الشقيقتان بسيارة إسعاف إلى مستشفى ميداني.
وبعد اللحظة السعيدة، جاءت لحظة تقشعر لها الأبدان، إذ طلب فريق الإنقاذ من الجميع التزام الصمت لما يبدو أنه النداء الأخير.
“إذا كنتم تسمعوننا، فأجيبونا. فإذا لم تستطيعوا الرد علينا، حاولوا لمس الأرض”.
كرر حسن النداء، وهو يناشد أي من الناجين الذين يحتمل وجودهم تحت أنقاض المبنى، عدة مرات من زوايا مختلفة. لكنه توجه بحزن شديد إلى كتلة من الخرسانة وبدأ يوقع ويكتب بعض الرموز برشاش يخرج طلاء أحمر اللون حتى لا تكرر فرق إنقاذ أخرى عملية البحث تحت أنقاض هذا المبنى.
وقال عامل الإنقاذ مصطفى: “إحساس جميل أن تنقذ حياة إنسان، لكني كنت أتمنى ألا يكون هناك وفيات”، قال لي ذلك بينما يخيم الحزن على ملامح وجهه.
وسألته: “هل ستتناول الغداء مع إيريم وميرف؟” فأجابني بابتسامة: “أتمنى أن أستطيع أن أفعل ذلك يوما ما، لكن المهم الآن هو أنهما على قيد الحياة وفي يد أمينة”.