وسط ضغوط اقتصادية حادة.. إلى أين تتجه الفائدة في بريطانيا؟
ورغم أن الاقتصاد البريطاني يشترك في سياق التحديات التي يواجهها مختلف الاقتصادات حول العالم، سواء فيما يتعلق بتبعات كورونا الممتدة ثم الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها الاقتصادية الأوسع، فإنه في الوقت نفسه يتفرد بعامل ثالث يفاقم الضغوطات، وهو المتمثل في تداعيات الخروج من الاتحاد الأوروبي، والتي باتت آثارها ملحوظة على نطاق واسع، وبما يضع الاقتصاد البريطاني في مأزق شديد.
يتزامن ذلك المشهد مع حالة من فقدان الثقة بين كثير من البريطانيين في إدارة السياسات المالية والاقتصادية بالبلاد، وكذلك في ظل حالة تذمر واسعة في صفوف العاملين في كثير من القطاعات، بما يفاقم حجم الأزمة التي تواجهها المملكة المتحدة، في خطٍ متوازٍ مع تصاعد الضغوط التضخمية.
ومن المتوقع على نطاق واسع أن يرفع بنك إنجلترا أسعار الفائدة 25 نقطة أساس أخرى إلى 4.75 بالمئة في اجتماعه الخميس المقبل وهي أعلى نسبة منذ عام 2008.
رفع الفائدة
الخبير البريطاني في قطاع العقارات، جوناثان رولاند، يقول في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن بنك إنجلترا يواجه كثيراً من الضغوطات من أجل الحفاظ على أسعار الفائدة كما هي، رغم ارتفاع معدلات التضخم، مشيراً إلى أن “العبء الأكبر يقع على كاهل مالكي المنازل ممن هم ملتزمون بالسداد للبنوك”.
ويضيف: “لكن برغم تلك الضغوطات، فإن الواقع يشير إلى أنه إذا لم ترتفع أسعار الفائدة، فإن ذلك سوف يدفع التضخم إلى استغراق وقت أطول من أجل العودة إلى المعدل المستهدف عند 2 بالمئة، وبالتالي فمع الحديث عن رفع محتمل للفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية، أعتقد بأننا سنرى ارتفاعاً بنسبة ربع نقطة فقط (إلى 4.75 بالمئة) وهو ما يُمكن اعتباره بمثابة حل وسط في ضوء تلك الضغوطات”.
ويعتقد رولاند بأنه “يبدو من المرجح أن يكون المعدل الأساسي للفائدة أعلى من 5 بالمئة بحلول نهاية العام”، بما لذلك من انعكاسات مختلفة.
وكان استطلاع أجرته “رويترز”، قد أظهر أن البنك ربما يكون أكثر جرأة في تشديد السياسة النقدية مما كان يُعتقد في وقت سابق.
ويشير الخبير البريطاني إلى أن مقرضي الرهن العقاري واثقون جداً من حدوث زيادة، فقد كانوا منشغلين في إبرام الصفقات وإعادة إصدارها بمعدل أعلى، مردفاً: “بالنسبة لحكومتنا، فهي لا تفعل شيئاً وتترك لأصحاب العقارات والمستأجرين (تزداد الإيجارات عند ارتفاع الرهون العقارية) أن يتضرروا بكل ما ينجم عن ذلك من بؤس ومعاناة”.
ويلفت النظر إلى المعضلة التي يواجهها صانعو السياسات الاقتصادية في بريطانيا، متسائلاً: “هل يعرضون المساعدة عبر المنح والقروض من أموال دافعي الضرائب، وهو ما يخفف الصدمات (الناجمة عن رفع الفائدة) لكنه في الوقت نفسه لا يتلائم والمعركة الحادة ضد التضخم؟ بمعنى أوضح: هل سيختارون أن يُنظر إليهم على أنهم قساة ولا يفعلون شيئاً، أو كرماء ويساعدون في زيادة التضخم؟!”.
وأظهرت بيانات من مكتب الإحصاء الوطني البريطاني أن تضخم أسعار المستهلكين السنوي في البلاد قد تباطأ بأسرع وتيرة منذ نحو 30 عاما إلى 8.7 بالمئة في أبريل من 10.1 بالمئة في مارس، كما أنها المرة الأولى الذي يهبط فيها التضخم إلى خانة الآحاد منذ أغسطس الماضي.
ومنذ ديسمبر 2021، رفع بنك إنجلترا الفائدة 12 مرة حتى الآن، لتصل إلى أعلى مستوياتها منذ العام 2008، وذلك بعد أن تم رفع الفائدة الشهر الماضي بمقدار 25 نقطة أساس إلى 4.5 بالمئة، وهو ما يتماشى مع التوقعات السابقة، ضمن مساعي بنك إنجلترا لكبح جماح التضخم الذي لا يزال الأعلى بين جميع الاقتصادات المتقدمة.
ويعد بنك إنجلترا من أوائل البنوك المركزية التي لجأت إلى رفع الفائدة أخيراً، وذلك قبل الفيدرالي الأميركي والمركزي الأوروبي، ويُعتقد بكونه “وإن كان أول من رفع الفائدة، قد يكون آخر من يتوقف عن تلك السياسة”، بحسب تقرير لـ “بلومبرغ” أشار إلى عددٍ من المؤشرات، من بينها:
* ارتفاع عائدات السندات البريطانية إلى أعلى مستوى منذ 2008 بدعم أرقام سوق العمل القوية.
* هناك ترجيحات بأن يرفع بنك إنجلترا سعر فائدته الأساسي إلى 6 بالمئة مطلع 2024.
* الوصول إلى ذلك المستوى من الفائدة المرتفعة يسفر عن ضغوطات أوسع، لا سيما على أصحاب القروض العقارية.
* حال انتهاء سياسة التشديد النقدي، تشير التوقعات إلى أن أول خفض للفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية لن يحدث حتى وقت متأخر من العام 2024.
يقول الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية في لندن، طارق الرفاعي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن بنك إنجلترا من المتوقع أن يرفع الفائدة بمعدل ربع نقطة مئوية في جلسة الخميس المقبل، وذلك من 4.5 إلى 4.75 بالمئة، وذلك بالنظر إلى معدلات التضخم الحالية.
ويوضح أن معدلات التضخم لا تزال مرتفعة تاريخياً في بريطانيا، مشدداً على أن التوقعات تشير إلى انخفاض بسيط خلال الفترة الحالية نحو 8.5 أو 8.25 بالمئة في مايو، بينما لا تزال تلك المعدلات تشكل مستوى مرتفعاً.
ويضيف: “أعتقد بأن بنك إنجلترا لا تزال سياسته واضحة في الاستمرار برفع أسعار الفائدة”، مشيراً إلى أن تلك السياسة هي أخف من سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، لأنه (بنك إنجلترا) يرفع الفائدة بنسب أقل خلال الفترات الماضية “ولذلك أعتقد بأن سبباً من أسباب نسبة التضخم المرتفعة في بريطانيا يتمثل في الحركة البطيئة من قبل بنك إنجلترا”.
تراجع الثقة في بنك إنجلترا
ونتيجة لانعكاسات قرارات البنك منذ العام الماضي على المواطنين، ومع استمرار تلك السياسات دون الشعور بتقدم ملموس فيما يخص الأسعار، فقد تراجعت ثقة البريطانيين في بنك إنجلترا إلى أدنى مستوياتها، وذلك وفق ما تُظهره نتائج مسح أجرته شركة إبسوس لأبحاث الرأي العام، والتي جاءت على النحو التالي:
* 21 بالمئة فقط من البريطانيين يشعرون بالرضا عن أداء بنك إنجلترا وسياسته الخاصة بكبح جماح التضخم.
* هذه النسبة هي الأدنى منذ بدء قياس تلك البيانات في العام 1999.
* 34 بالمئة من البريطانيين أبلغوا بأنهم “غير راضين” عن أداء البنك (وهي النسبة الأعلى على الإطلاق).
الباحث المقيم في لندن عضو حزب العمال البريطاني، مصطفى رجب، يعلق على ذلك الوضع، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، موضحاً أن “عدم الاستقرار الاقتصادي في المرحلة الحالية ظاهرة يشهدها العالم كله في ضوء تداعيات الحرب في أوكرانيا، لكنّ بريطانيا بصفة خاصة تعاني ضغوطات واسعة، وهو ما ينعكس على قرارات بنك إنجلترا الذي يحاول بشتى السبل مواجهة معدلات التضخم المرتفعة حالياً والنزول بها إلى المستويات الطبيعية المستهدفة، وهو في سبيل ذلك قد يصل إلى رفع معدلات الفائدة إلى 5 بالمئة خلال الفترات المقبلة”.
ويوضح أن تلك السياسات تنعكس بشكل كبير على البريطانيين، لا سيما أصحاب المنازل الحاصلين على تمويلات من البنوك والذين يدفعون فاتورة باهظة جراء تبعات رفع معدلات الفائدة على ذلك النحو، وبما يعيد للأذهان ما شهدته لندن في فترة من التسعينات عندما اضطرت البنوك للحجز على بيوت الناس (المتعثرين) ما شكّل مأساة خاصة بالنسبة للعائلات.
ويشير إلى معاناة البريطانيين بشكل لافت مع ارتفاع أسعار مختلف السلع، في وقت يحاول فيه بنك إنجلترا اتخاذ ما يلزم من سياسات لمواجهة التضخم، لكن تلك السياسات المرتبطة برفع الفائدة تشكل ضغوطاً واسعة على البريطانيين، وبالتالي “نمضي في حلقة مفرغة”، لا سيما أنه لا تلوح في الأفق بوادر تحسن، خاصة في ظل احتدام الصراع في أوكرانيا، وبما قد يقود إلى “مأساة اقتصادية”، على حد تعبيره.
الركود التضخمي
ويعاني اقتصاد المملكة المتحدة من نوبة سيئة من الركود التضخمي، في وقت تبدو فيه الآفاق ضعيفة للغاية، طبقاً لتقرير نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز” هذا الأسبوع، أشار إلى معضلة عدم نمو في الإنتاج منذ يوليو الماضي ومع تكثيف الضغوط التضخمية وزيادة نمو الأجور، وبالتالي لم يرض أحد تقريباً عن الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد.
– تراجع معدل البطالة في المملكة المتحدة في أبريل، لكن ارتفاع الأجور ما زال يشهد نمواً، مما يشير إلى أن بنك إنجلترا سيظل تحت ضغط لرفع أسعار الفائدة.
-قال المكتب الوطني للإحصاء في بيان إن معدل البطالة انخفض إلى 3.8 بالمئة مقارنة بـ 3.9 بالمئة في مارس.
– لكن متوسط الأجور ارتفع بنسبة 7.2 بالمئة، من 6.8 بالمئة المنقحة من بيانات مارس، مما يشير إلى أن بنك إنجلترا سيظل تحت ضغط لرفع أسعار الفائدة.
واستشهد التقرير المشار إليه بتصريحات محافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي، التي قال خلالها إن التضخم “يستغرق وقتاً أطول بكثير مما كنا نتوقع”.
ونقل التقرير عن رئيس مركز أبحاث معهد بيترسون في واشنطن، آدم بوزين، قوله إنه بالمقارنة مع الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، تعاني المملكة المتحدة من مشاكل إضافية تتعلق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفقدان مصداقية الحوكمة الاقتصادية وإرث – الاستثمار في خدمات الصحة العامة والنقل.
الخروج من الاتحاد الأوروبي
وحمّل محافظ بنك إنجلترا السابق، مارك كارني، في تصريحات نشرتها صحيفة “التليغراف” أخيراً، خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي المسؤولية الجزئية عن مستويات التضخم المرتفعة في المملكة المتحدة.
وفي هذا السياق، يلفت الأستاذ بجامعة كوينز السياسات الاقتصادية الأوروبية، غرانت أميوت، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى تأرجح الرأي العام في بريطانيا ضد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مشيراً إلى أن:
* السبب وراء ذلك يتمثل في الأداء الاقتصادي السيء للبلاد منذ أن غادرت السوق الموحدة في نهاية العام 2020.
* وبينما حجبت فترة كورونا هذا التأثير لفترة من الوقت، فقد بدأ الآن في الظهور، على أساس أن انتعاش بريطانيا كان أبطأ من أية دولة أخرى في مجموعة السبع.
* قدرت المعاهد الإحصائية الخفض في الناتج المحلي الإجمالي المنسوب إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بنسبة 4-5 بالمئة.
* بالنسبة للجمهور، يتجلى هذا الأداء الضعيف في ضعف الخدمات العامة وانخفاض الدخل الحقيقي مع احتدام التضخم (مرة أخرى بمعدلات أعلى من بقية دول مجموعة السبع).
ويضيف: “ربما كان التضخم أكثر من أي شيء آخر قد أثار استياء الناس من عواقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (..) كذلك كان هناك أيضاً ضجيج من الشركات الأجنبية حول عدم الاستثمار في بريطانيا الآن”.
ويرى أن “هذا الأسف واسع النطاق على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يؤدي إلى عودة لندن إلى الاتحاد في المدى القريب (..) حكومة حزب العمال قد تعقد بعض الصفقات مع الاتحاد الأوروبي لتهدئة بعض الأمور فيما يخص عواقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ، لكنها لن تحاول الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو السوق الموحدة”.
وكان صندوق النقد الدولي، قد عدّل تقديراته السابقة، والتي كان يتوقع فيها أن يقع الاقتصاد البريطاني في ركود هذا العام، لجهة تحقيق نمو في الناتج المحلي الإجمالي البريطاني بنسبة 0.4 بالمئة في العام 2023، بعد أن كان يتوقع انكماشه بنسبة 0.3 في توقعاته السابقة في أبريل، لكن هذه التوقعات تعتبر أضعف من أي اقتصاد رئيسي.