نظرة متشائمة حيال نشاط قطاع التصنيع العالمي
ويعد قطاع التصنيع من بين أبرز القطاعات التي تأثرت بسياسات التشديد النقدي (مجموع الإجراءات التي تتبعها البنوك المركزية لتقليل الطلب على النقود) التي اتبعتها البنوك المركزية للسيطرة على معدلات التضخم.
وانعكست قرارات رفع الفائدة على نشاط القطاع، لا سيما في ضوء ارتفاع تكلفة السلع المصنعة، وبالتالي تدني الطلب عليها، وكذلك السلع الاستهلاكية طويلة الأمد كالسيارات وغيرها، ومع زيادة تكلفة الاقتراض.
في الولايات المتحدة، سجّل قطاع التصنيع تباطؤاً مستمراً على مدار الثمانية أشهر الماضية، ليصل بذلك إلى أدنى مستوى له منذ ما يزيد عن ثلاثة أعوام تقريباً، في خطٍ متوازٍ مع تراجع المؤشرات ذات الصلة المرتبطة بالإنتاج والتوظيف وأسعار مستلزمات الإنتاج، وهو ما أورده تقرير صادر عن معهد إدارة الإمدادات، بخصوص أداء القطاع في الشهر الأخير من النصف الأول من العام، على النحو التالي:
- تراجع مؤشر مديري مشتريات قطاع التصنيع في يونيو إلى 46 نقطة (أدنى مستوى منذ مايو 2020)، وذلك مقارنة بـ 46.9 نقطة في مايو.
- تعكس تلك المستويات (أقل من 50 نقطة) انكماش النشاط الاقتصادي للقطاع.
- هذا التراجع المتوالي (دون مستوى الـ 50 نقطة) هو أكبر سلسلة تراجع منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.
- سجل المؤشر الفرعي للإنتاج تراجعاً أيضاً إلى أدنى مستوياته منذ مايو 2020، في ظل ضعف الطلب على السلع، وكذلك الحال بالنسبة للمؤشر الفرعي للطلبيات الجديدة الذي تراجع للشهر العاشر على التوالي.
- في يونيو، 11 نشاطاً صناعياً بالولايات المتحدة سجلوا انكماشاً (أبرزهم قطاعات المطاط واللدائن والمنتجات الخشبية والمنسوجات).
لا مؤشرات إيجابية
وفيما تُظهر البيانات الحكومة الصادرة أخيراً بموازاة ذلك نقطة إيجابية وهي أن طلب الشركات على المعدات لا يزال في حالة جيدة، نقلت شبكة بلومبيرغ عن رئيس لجنة مسوح شركات التصنيع في معهد إدارة الإمدادات، تيموثي فيور، قوله إن الطلب على القطاع عموماً مازال ضعيفاً والإنتاج يتباطأ بسبب نقص الأعمال والطاقة التشغيلية للموردين.
كما انكمش التصنيع في منطقة اليورو -لا سيما بالنسبة للاقتصادات الأربعة الكبرى في المنطقة- بشكل أسرع مما كان يعتقد في البداية، خلال يونيو، بعد أن أدى التشديد المستمر في السياسة من قبل البنك المركزي الأوروبي إلى تقلص الموارد المالية.
ونقلت رويترز عن الاقتصادي الأوروبي في أكسفورد إيكونوميكس، روري فينيسي، قوله: “لا توجد مؤشرات حقيقية على أننا سنحصل على أي انتعاش في قطاع التصنيع هذا العام.. بشكل عام ما زلنا نتحدث عن تقييم سلبي”.
وكذلك الحال بالنسبة لبريطانيا، حيث يلامس قطاع التصنيع “أدنى مستوى في ستة أشهر”، بعد أن سجل مؤشر مديري المشتريات في قطاع التصنيع، الصادر عن ستاندرد آند بورز غلوبال، قراءة بلغت 46.5 نقطة في يونيو، انخفاضاً من 47.1 نقطة في مايو.
وبذلك يتواصل انكماش القطاع للشهر الـ 11 على التوالي.
وبشكل عام، لا يُتوقع للقطاع الصناعي انتعاشاً قريباً، وهو ما يؤكده في تصريحات لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” زميل أول بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي، جاكوب كيركيجارد، والذي يشير إلى أنه:
- لا توجد مؤشرات على انتعاشة القطاع خلال شهور الصيف الحالية.. القطاع سيشهد ركوداً هذا الفصل.
- في مقابل تراجع قطاع التصنيع، فإن قطاعات أخرى من المرجح أن تشهد توسعاً، وهي القطاعات المرتبطة بالخدمات.
ويشير إلى مجموعة من الأسباب المرتبطة بتراجع القطاع على ذلك النحو، من بينها ما يرتبط بأسعار الطاقة (وفي خطٍ متوازٍ مع التغيرات التي تشهدها أسواق الطاقة منذ بدء الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير 2022)، لا سيما فيما يتعلق بقطاع الصناعات الثقيلة وكثيفة الاستخدام للطاقة في القارة العجوز التي تحتاج مزيداً من الوقت لاستيعاب تلك المتغيرات المرتبطة بارتفاع التكلفة.
الصين
في آسيا، بينما توسع نشاط المصانع بشكل هامشي في الصين، تقلص في اليابان وكوريا الجنوبية حيث كافح الانتعاش الاقتصادي في آسيا للحفاظ على الزخم.
فيما يخص الصين، أظهر تقرير اقتصادي، تباطؤ وتيرة نمو نشاط قطاع التصنيع في الصين خلال شهر يونيو الماضي. وتراجع مؤشر “كايكسين” لمديري المشتريات التصنيعي (بي إم أي) إلى 50.5 نقطة مقابل 50.9 نقطة خلال مايو الماضي.
وبعد نموه بأسرع وتيرة له منذ 11 شهراً خلال مايو الماضي، سجل ناتج قطاع التصنيع في الصين نمواً طفيفاً خلال يونيو الماضي، وقالت الشركات في القطاعات التي سجلت زيادة الإنتاج إن هذه الزيادة ارتبطت بتحسن الطلب.
يذكر أن قراءة المؤشر أكثر من 50 نقطة تشير إلى نمو النشاط الاقتصادي للقطاع، في حين تشير قراءة أقل من 50 نقطة إلى انكماش النشاط.
ونقلت رويترز عن كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة في معهد داي إيتشي، تورو نيشيهاما، قوله: “ربما يكون الأسوأ قد مر للمصانع الآسيوية، لكن النشاط يفتقر إلى الزخم بسبب تضاؤل احتمالات الانتعاش القوي في الاقتصاد الصيني”.
ويضيف: “تتباطأ الصين في تقديم التحفيز.. ومن المرجح أن يشعر الاقتصاد الأميركي بألم الزيادات الكبيرة في أسعار الفائدة. كل هذه العوامل تجعل المصنعين الآسيويين متشائمين بشأن التوقعات.”
آثار كورونا وسلاسل التوريد
وإلى ذلك، يشير المؤسس وكبير الباحثين في The Problem Lab بجامعة واترلو الكندية، لاري سميث، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن “شيخوخة سكان العالم الصناعي تضيف إلى نقص العمالة والضغط التصاعدي على الأجور الذي لا يمكن قمعه بسهولة”.
ويضيف: “لا تزال آثار الوباء (كورونا) تشق طريقها عبر النظام في شكل طلب مكبوت يرفع الأسعار.. كما لا يزال هناك الكثير من السيولة والائتمان في النظام.. وأخيراً تستمر الحرب في أوكرانيا في فرض ضغط تصاعدي على أسعار الطاقة والغذاء، ما يؤثر بشكل مباشر على التضخم ويتدخل في التشغيل الفعال لسلاسل التوريد العالمية”.
وفيما تؤثر تلك العوامل مُجتمعة على معدلات التضخم، الأمر الذي يؤثر على مختلف القطاعات، بما في ذلك قطاع التصنيع الذي يشهد تحديات متنامية، فإن تعويلاً واسعاً على فعالية السياسات المالية والنقدية المتبعة، والهادفة إلى كبح جماح التضخم، من أجل التقاط القطاع الأنفاس والعودة لمعدلاته الإيجابية من جديد بعد صدمات كورونا وتبعات الحرب في أوكرانيا.
لكنّ تلك السياسات لم تُظهر فعالية مباشرة حتى الآن يُمكن من خلالها للقطاع تصحيح مساره. وطبقاً لسميث، فإن “هناك العديد من الأسباب التي تجعل التضخم بطيئاً في الاستجابة لارتفاع أسعار الفائدة، ذلك أن العالم يواجه بعض الظروف الفريدة التي تزيد من عدم اليقين بشأن توقيت تأثير زيادة أسعار الفائدة”.
وبموازاة تراجع قطاع التصنيع، يشهد النشاط الاقتصادي بقطاع الخدمات نمواً نسبياً وإن كان بوتيرة متباطئة كما هو الحال بالنسبة للصين على سبيل المثال.
وبحسب كبير خبراء اقتصاد الأعمال في ستاندرد أند بورز غلوبال ماركت إنتلجينس، كريس ويليامسون، في بيان، فإن “التراجع الكبير المتنامي للطلبات الجديدة يعني أنَّ المصانع ستعاني من ضعف التشغيل، ويبقى السؤال المتعلق بمدى قدرة نمو قطاع الخدمات على الصمود بمواجهة هبوط قطاع التصنيع والتأثير متأخر الظهور لزيادة أسعار الفائدة السابقة.
تراجع الاستثمار
من جانبه، يلفت المستشار بالبنك الدولي، محمود عنبر، استاذ الاقتصاد محمود عنبر، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى أن تراجع قطاع التصنيع أمر طبيعي في ظل عدد من العوامل؛ أهمها تراجع تدفق الاستثمارات (تحت وطأة الظروف الراهنة التي يشهدها الاقتصاد العالمي).
ويلفت في هذا السياق إلى التقرير الصادر أخيراً عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) والذي كشف عن تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 12 بالمئة خلال العام 2022 إلى 1,3 تريليون دولار، وذلك بعد انخفاض حاد في العام 2020 وانتعاش قوي في العام 2021.
ويتابع: “جاء ذلك التراجع مدفوعاً بالتوترات العالمية، وفي مقدمتها تداعيات الحرب في أوكرانيا التي أوصلت العالم إلى مرحلة اللايقين على المستوى الاقتصادي، وهي الحالة التي تضرب الاستثمار في مقتل (..) مرحلة اللايقين تدفع إلى تخوفات واسعة بالنسبة للمستثمرين الذين ينطلقون من مبدأ أن رأس المال جبان، وفي ظل الصعوبات التي تواجهها الاقتصادات المختلفة في هذا السياق”.
ويضيف عنبر: “يتسق ذلك مع تقارير سابقة صادرة عن البنك الدولي وصندوق النقد، حذرت من أن العالم قد يشهد نتائجاً أكثر خطورة حال استمرار الصراع الراهن في أوكرانيا، وبما ينعكس على القطاعات كافة”، مستدلاً بتصريحات مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، التي حذرت فيها من أن “الأسوأ لم يأت بعد”.
ولا يتوقع مستشار البنك الدولي انتعاشة مرتقبة إلا بزوال الأسباب التي دفعت إلى تلك التراجعات وحالة عدم اليقين على المستوى الاقتصادي. فيما يُبرز في الوقت نفسه أثر المنافسة والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في رفع حدة الضغوطات التي يواجهها الاقتصاد العالمي، مردفاً: “شكلت زيارة وزيرة الخزانة الأميركية إلى الصين، ومن قبلها وزير الخارجية الأميركي، مؤشرات مهمة، لكن من غير المرجح أن يتم التوصل لنوع من التقارب (..) لا أحد يستطيع أن يتنبأ بشكل الخريطة الاقتصادية في المرحلة المقبلة”.