قضية سعد لمجرد: لماذا يميل البعض إلى تكذيب الضحية؟
- جوي سليم
- بي بي سي نيوز عربي – بيروت
انتشرت في الأيام القليلة الماضية منشورات وتغريدات تتضامن مع المغني المغربي سعد لمجرد وتدافع عنه، بعد إصدار محكمة فرنسية حكماً بسجنه ست سنوات، لإدانته بضرب امرأة واغتصابها.
بعد صدور الحكم، قرأنا آراءً لمشاهير ولمعجبي الفنان تكذّب الضحية حيناً، وتلومها حيناً آخر لكونها رافقت المغني إلى غرفته في أحد فنادق باريس، حيث وقعت الجريمة.
في السابق، إبّان صعود حركة “أنا أيضاً” عام 2018 وانتشار شهادات ضحايا الاعتداءات الجنسية على مواقع التواصل الاجتماعي، برزت دعوات إلى عدم اللجوء إلى “محكمة مواقع التواصل”، لإدانة رجال نافذين، مشبّهةً إياها بالمحاكمات الميدانية.
وشدّدت تلك الدعوات دوماً على ضرورة الاحتكام إلى القضاء لتفادي الظلم، خصوصاً أنه، وبخلاف معظم الجرائم الأخرى، تغيب في الكثير من الأحيان الأدلة الحسّية عن جرائم العنف الجنسي لأن نطاق حدوثها حميم.
لكن حالة لمجرد أظهرت أن حكماً قضائياً لم يكن كافياً لتصديق الضحية ونزع الحصانة الجماهيرية عن الفنان.
ما هي الدوافع الدائمة خلف تكذيب الضحية؟ ولماذا يميل البعض إلى التمسّك بمواقفهم الداعمة للمعتدي؟
تاريخ حافل بالعداء للنساء
للتمييز المستمر ضد النساء جذورٌ ضاربة في تاريخ الحضارة البشرية.
وتكفي نظرة سريعة إلى تراث الإنسانية، بين الميثولوجيا والأديان إلى ملاحظة مستوى الكراهية الموجهة إلى النساء والتي تسببت في أحيان كثيرة بتحميلهن مسؤولية تعرضهن إلى الاغتصاب والعنف.
في واحدة من نسخات أسطورة ميدوزا الإغريقية على سبيل المثال، يغتصب الإله بوسيدون ميدوزا في معبد الآلهة أثينا التي تحوّل خصل شعر ميدوزا إلى أفاعٍ عقاباً لها على غوايتها.
وفي التوراة قصص عديدة تنطوي على كراهية صريحة للمرأة واعتبارها مصدر الشرور. بدءاً من “غواية” حواء في سفر التكوين وصولاً إلى قصص اغتصاب عدة مثل قصة الملك داوود وبثشبع (سفر صموئيل الثاني) وقصة شكيم ودينة (سفر التكوين) وقصة تمار وأمنون (سفر صموئيل الثاني) وغيرها.
كذلك، مثلت المرأة الزانية شخصيةً محورية في التوراة. على سبيل المثال، في سفر حزقيال نقرأ عن “الأختين الزانيتين” (كاستعارة لمدينتي السامرة وأورشليم)، حيث يتوعّد النص واحدة منهما، تدعى أهوليبة، بالعقاب: “وأجعل غيرتي عليك فيعاملونك بالسّخط. يقطعون أنفك وأذنيك، وبقيّتك تسقط بالسّيف. يأخذون بنيك وبناتك، وتؤكل بقيّتك بالنّار”.
وعلى الرغم من تصاعد النقد الموجه إلى تعاطي الأديان مع المرأة، خصوصاً خلال القرن العشرين بالتزامن مع توالي موجات الحركة النسوية، لا يزال التمييز ضد النساء، المستند إلى خلفية دينية، سائد على نطاق واسع.
من هذا المنظور نفسه، لا يزال البعض يلقي على الضحية مسؤولية تعرضها للانتهاك الجنسي أو التعليق على ملابسها واعتبارها “تستفز” أو “تستدرج” الرجال.
يأتي ذلك من اعتياد النظر الدائم إلى المرأة كموضوع لرغبة الرجل. فوجودها بذاته سببٌ لفتنة الرجل وغوايته ووقوعه في المعاصي.
ومن هذه الخلفية، نجد أن المجتمعات المتدّينة والمحافظة ترفض التعاطف مع ضحيةً “غير مثالية”.
إذا كانت الضحية امرأة لا تجد مشكلة في مرافقة رجل إلى غرفة الفندق، فهذا كافٍ لإدانتها.
كذلك الأمر إذا كانت المرأة في حالة سكر أو تحت تأثير مخدر. أو حتى إذا كانت ببساطة تلبس ثياباً لا توافق معاييرهم وتعيش نمط حياة لا يشبه حياتهم.
في هذه الحالة، كما هي حالة الضحية في قضية لمجرد (وفي قضية فندق فيرمونت الشهيرة في مصر مثلاً)، يصبح الاغتصاب أو الاعتداء الجنسي، “أمراً طبيعياً” أو “متوقعاً” ولا حاجة للتضامن مع الضحية أو الدفاع عنها.
ما يتم إغفاله عند “المفاضلة” بين الضحايا على هذا المنوال، هو أن كل النساء، على تنوّع خلفياتهن ومواقعهن الاجتماعية، تعرّضن ويتعرضن للعنف الجنسي.
ويمثل البحث عن ضحية “مثالية” أي مطابقة لمعايير الغالبية في المجتمع أيضاً، ميلاً إلى سردية ينفصل فيها الخير عن الشرّ بصورة واضحة.
كذلك، يفضّل الجمهور قصص العنف الجنسي التي يكون فيها الجاني “نموذجياً” أيضاً، بمعنى أن يكون شخصاً مجهولاً، خارجاً عن القانون، فقيراً ربّما… هذه الخصائص تساعد على أخذ مسافة منه وإدانته لكونه “لا يشبهنا”.
إذ أن المساحات الرمادية وتعقيد أفعال الشخصيات ودوافعهم، أمورٌ تصعّب مهمة فهم الحادثة وبالتالي تثير قلقاً من تكرارها مع أيّ شخص آخر.
فإن لم يكن المغتصب شخصاً “شريراً” بالأساس، كشخصيات البعد الواحد في قصص الأطفال، ما الذي يمنع أن يصدر فعلٌ كهذا عن شخص نثق فيه أو ربما عنّا نحن؟
آلية دفاعية
في سياق قريب، يرجّح علم النفس أن لوم الضحية يأتي من آلية دفاعية يعتمدها اللائمون لكي يضعوا مسافةً بينهم وبين الحدث الصادم. يفضّلون تحميل الضحية المسؤولية عن مصيرها لأن ذلك يجعل العالم مكاناً أكثر أماناً.
يحيل هذا التفسير إلى مفهوم “الإيمان الفاسد” أو “الإيمان المخاتل” في الفلسفة الوجودية، إذ يجنح الانسان إلى النكران والكذب على النفس هرباً من قلق الحرية واحتمالاتها اللا نهائية.
عالمٌ نظنّ فيه أن الضحية تكذب، أنها ليست بضحية أصلاً، هو عالمٌ مطمئن.
من جهته، اعتبر الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو أن “لوم الضحية” عموماً وليس فقط في حالات العنف الجنسي، واحدة من خصائص “الشخصية الفاشية”.
ففي كتابه المشترك مع كتّاب آخرين “الشخصية السلطوية” (1950)، اعتبر أن الشخص ذا الميول الفاشية “يحمل في نفسه ازدراءً لكل ما هو ضعيف أو يتعرّض للتمييز”، مقابل تمجيده لكلّ ما هو قوي وعنيف.
ولا يزال نموذج الرجل “القوي” متعدّد العلاقات والذي في رصيده العديد من “الغزوات الجنسية” يتمتّع بشعبية على نطاقٍ واسع في المجتمعات العربية والغربية، على الرغم من التشكيك المتزايد في السنوات الأخيرة بالصورة النمطية للذكورة والأنوثة على السواء.
امتيازات المعتدي
وبشكل أساسي، يلعب الموقع الاجتماعي الذي يحتلّه الجاني دوراً مهماً في التعاطف معه ودعمه.
وفي معظم أحداث العنف الجنسي، يتمتع الرجل بموقع أعلى من المرأة. أستاذ جامعي أو مدير في العمل أو رجل ثريّ وصاحب نفوذ…
في حالة لمجرد نحن أمام فنان ذي شهرة وشعبية واسعتين، وأمام فتاة كانت في العشرين من عمرها لا نعرف عنها شيئاً. هذه الفجوة بين المعتدي وبين الضحية تمكّن الأول وتمنحه حصانةً جماهيرية ما، في حين تترك الضحية في موقع أكثر هشاشة وعزلة.
وبرز هذا التعارض بشكل واضح في قضية الفنان مايكل جاكسون مثلاً، عند بروز اتهامه مجدداً بالتحرش بالأطفال، بعدما أدلى اثنان من الضحايا بشهادتيهما في وثائقي “نيفيرلاند” (2019).
يميل الناس إلى تبرئة المشاهير الذين يحبّونهم. بالنسبة لهم هؤلاء شبه منزّهين عن الأخطاء، ولا يستطيعون في الكثير من الأحيان التفريق بين فنّهم وقيمته لديهم وبين أخلاقهم وسلوكيّاتهم.
إذاً يبدو أنه على الرغم من الاحتكام للقضاء وإدانته للفنان المغربي، هناك من يتمسّك بـ”حقيقة” تتناسب مع آرائه وأهوائه فقط، مفضّلاً سردية لمجرد وفريقه الدفاعي ومتجاوزاً واقع أن هذه السردية مدعومة بخطاب متفوّق تاريخياً.
ربما يعود ذلك إلى أنه “من غير الممكن فصل الحقيقة عن عمليات إنتاجها، وهي عمليات المعرفة وعمليات السلطة”، بحسب كلمات الفيلسوف ميشال فوكو.
يضيف الفيلسوف الفرنسي “لا توجد حقيقة (أو حقائق) مستقلة عن علاقات القوة التي تدعمها والتي هي في الوقت نفسه تجدّدها وتقوّيها. لا توجد حقيقة من دون سياسة الحقيقة. أيّ تأكيد للحقيقة هو سلاح أو أداة في علاقات القوة”.