حصون فرنسا تتساقط.. كيف تهدد انقلابات إفريقيا مصالح باريس؟
من مالي وبوركينا فاسو وصولاً إلى النيجر والغابون أخيراً، ضربت عدوى الانقلابات حصون فرنسا واحداً تلو الآخر في إفريقيا، وبما يفضي إلى قلق فرنسي عميق جراء تصاعد التهديدات المرتبطة بخسائرها للأنظمة الحليفة لها في تلك البلدان، وتحت وطأة تنامي الأصوات المحلية الرافضة للوجود الفرنسي، والداعية إلى ضرورة بناء شراكات متوازنة تُخرج دول القارة من نطاق التبعية.
تفاقم تلك الأحداث والتطورات الضغوطات التي يواجهها الاقتصاد الفرنسي، المُثقل أساساً بتبعات الحرب في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا، ولا سيما في ضوء اعتماد باريس على حلفائها في القارة السمراء فيما يخص واردات بعض المواد الأساسية، ومن بينها اليورانيوم من النيجر المستخدم في محطات توليد الطاقة الكهربائية في باريس على نطاق واسع.
خسارة فرنسا لتلك البقع الاستراتيجية في القارة، ووسط تصاعد احتمالات توسع حمى التوترات السياسية في دول أخرى في المرحلة المقبلة، يعد اختباراً قوياً للدبلوماسية الفرنسية التي تتعرض لهزّات عنيفة في الوقت الحالي، كما أنها تشكل اختباراً مماثلاً لقدرة وصلابة الاقتصاد الفرنسي على استيعاب أية خسائر قادمة من أفريقيا، في ضوء توسع الشركات الفرنسية العاملة في دول القارة، فضلاً عن اعتبار عدد من بلدان القارة كأسواق مهمة للمنتجات الفرنسية، ومع ارتباطات العملة في تلك البلدان بباريس.
تحديات متزامنة يواجهها الاقتصاد الفرنسي
يقول خبير العلاقات الدولية، رضوان قاسم، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الوضع بالنسبة لفرنسا متأزم إلى حد كبير، بالنظر إلى الأحداث الجارية في إفريقيا وسلسلة الانقلابات التي تشهدها القارة وفي الدول التي كانت ترتبط بشكل مباشر ببياريس، وبما يؤثر على المصالح الفرنسية بصورة واضحة.
ويشير إلى أن الأحداث المتتابعة تؤثر على الاقتصاد الفرنسي على عدة صعد، لا سيما عند الأخذ في الاعتبار طبيعة الثروات التي تزخر بها تلك الدول والعلاقات الاقتصادية التي تربطها بفرنسا، وما توفره للشركات الفرنسية من فرص واسعة، بما في ذلك ما يتعلق باليورانيوم (كما هو الحال بالنسبة للنيجر) وكذلك النفط (كما هو الحال بالنسبة للغابون) ومواد أخرى مثل الخشب والذهب والمغنسيوم والمنغنيز وما إلى ذلك.
ويلفت إلى أن الاقتصاد الفرنسي يعتمد في كثيرٍ من تلك الموارد على دول أفريقية، وبالتالي تشكل الأحداث المتتابعة في القارة صفعة كبيرة بالنسبة لباريس، خاصة الانقلاب الحالي في الغابون ومن قبله في النيجر، وبما يؤثر بدوره على السياسة الخارجية لفرنسا والتي طالب مجلس النواب الفرنسي بإعادة النظر فيها.
ويتابع خبير العلاقات الدولية: “ربما لا تتوقف الأحداث عند ذلك الحد، ونرى تساقطاً لأحجار الدومينو في القارة الأفريقية دولة تلو الأخرى، وهو ما يؤزم الأوضاع بالنسبة للاقتصاد الفرنسي، لا سيما وأنه يعاني فعلياً من مشكلات جوهرية بعد الحرب في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا، ومع اعتماد أوروبا السابق على الغاز الروسي.. وبالتالي فإن الاقتصاد الفرنسي أمام تحديات صعبة تفرزها تلك التطورات”.
ويلفت قاسم إلى أن باريس مُهددة بشتاء أكثر برودة لا سيما وأن المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء تعتمد على اليورانيوم من النيجر (منظومة الكهرباء في فرنسا تستورد 70 بالمئة من اليورانيوم المستخدم بتصنيع الكهرباء من النيجير).
وتفضي التوترات التي تشهدها دول القارة، لا سيما في غرب أفريقيا، إلى قلق فرنسي واسع حيال تصاعد التهديدات المرتبطة بتراجع واسع للدور الفرنسي في تلك المنطقة الاستراتيجية، والتي تجمعها وباريس علاقات اقتصادية مهمة لكل من الطرفين.
تشير بيانات وزارة المالية الفرنسية، إلى أنه في العام 2022 نما التبادل التجاري بين فرنسا والاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا بنسبة 9.8 بالمئة مقارنة بالعام 2021، وصولاً إلى 5.1 مليار يورو.. كما تشير البيانات نفسها إلى أن:
- الصادرات الفرنسية إلى دول المنطقة ارتفعت بنسبة 6.8 بالمئة، لتصل إلى 3.7 مليار يورو، بما في ذلك الثلثين المتجهة إلى ساحل العاج والسنغال.
- تظل كوت ديفوار العميل الرئيسي لفرنسا في الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا، متقدمة على السنغال.
- المنتجات من الصناعات الغذائية والصناعات الدوائية هي سلعة المبيعات الرائدة لفرنسا لدول الاتحاد.
- ارتفعت الواردات الفرنسية من المنطقة بشكل حاد بنسبة 18.6 بالمئة لتصل إلى 1.4 مليار يورو، جاء 75 بالمئة منها من كوت ديفوار، لا سيما فيما يتعلق بشكل رئيسي بالمنتجات الزراعية والصناعات الغذائية الزراعية.
- النيجر تأتي في المرتبة الثانية ارتباطاً بالواردات الفرنسية من المنتجات المعدنية (بقيمة 142.3 مليون يورو)، المكونة حصرياً من اليورانيوم. والتي تمثل أكثر من 98 بالمئة من مشتريات باريس في الإقليم.
- ترى فرنسا أن فائضها التجاري مع الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا يظل مستقراً تقريباً (+0.7 بالمئة مقارنة بالعام 2021) عند 2.3 مليار يورو.
وتنشط في القارة الأفريقية أكثر من 1100 مجموعة استثمارية فرنسية عملاقة، وحوالي 2100 شركة كبرى. كما تعد فرنسا ثالث أكبر مستثمر في أفريقيا بعد بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، إلا أن دخول منافسين أقويا حلبة المنافسة في القارة السمراء (مثل الصين وروسيا) هدد بشكل كبير الحضور الفرنسي، فضلاً عن الحركات الشعبية الرافضة للوجود الفرنسي في أفريقيا.
تساقط حصون فرنسا
من باريس، تقول الكاتب والباحثة السياسية إيمان مسلماني، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الانقلابات المتتابعة (التي تشهدها مناطق النفوذ الفرنسي في أفريقيا) تؤثر بشكل واضح على مصالح فرنسا في القارة، لا سيما بعد الانقلابيين الأخيرين (في النيجر ومن بعدها في الغابون الآن)، بما في ذلك التأثير على مصالح عديد من الشركات الفرنسية العاملة هناك، خاصة فيما يتعلق بمناجم اليورانيوم التي كانت باريس قد وضعت يداً كبيرة فيها، علاوة على عديد من الاستثمارات لشركات فرنسية في قطاعات مختلفة.
وتضيف: “بعد انقلاب في 26 يوليو الماضي في النيجر، يأتي الآن الانقلاب في الغابون والتي هي أيضاً تعد حليفاً استراتيجياً لفرنسا في أفريقيا، فقد كانت فرنسا تعتمد على الغابون بشكل أو بآخر في حل النزاعات التي تواجهها في أفريقيا ولدى عدد من الشركات الفرنسية شراكات هناك مع الشركات العاملة بالدولة ومع الحكومة، من بينها شركة التعدين الفرنسية (إيراميت) التي أعلنت بعد استيلاء عسكريين على السلطة عن توقف عملياتها، ما أدى إلى تراجع سهمها بنسبة كبيرة، قبل أن اتجاهها لاستئاف العمل ولو بشكل جزئي.
هذه الخسائر الاقتصادية المتتالية لفرنسا والتي تؤثر إلى حد ما على اقتصادها، جراء تلك الانقلابات تأتي في سياق أن “الشعوب الأفريقية بدأت تشعر أنها لم تعد تحتمل الوجود الفرنسي في بلادهم، خاصة مع ذلك الإرث الاستعماري الطويل، وبشكل أو بآخر هناك استياء عام كبير تجاه فرنسا.. فيما وجدت القارة الحليف الآخر لها سواء الصين وروسيا باستثماراتهما الكبيرة التي توجهت بشكل أو بآخر تجاه القارة”.
وحول ما إذا كانت تلك التبعات من شأنها أن تقود باريس إلى مقاربات جديدة في علاقاتها مع دول القارة السمراء ومناطق نفوذها القديم، بهدف تحقيق نوع من “الشراكة المتوازنة” التي تتطلع إليها الشعوب الأفريقية، ترى المسلماني أن:
- فرنسا تحاول الآن بكامل قواها السياسية والدبوماسية (وربما بعض التأثيرات العسكرية إذا اضطرت إلى ذلك،حسب ما يردده الإعلام الفرنسي) أن تحافظ على الهدوء قدر الإمكان، وعلى الحكومات القائمة التي تربطها بها علاقات خاصة، من خلال مساعدتها لها في تثبيت أنفسها ضد هؤلاء الانقلابيين.
- من الواضح أنها (فرنسا) لم تستطع التأثير أكثر من ذلك، لا سيما مع تنامي الشعور الشعبي بعدم تقبل الدور الفرنسي.
- فرنسا تحاول وستبقى تحاول، لكن في النهاية أعتقد بأنها سوف تستلم إلى خسائرها في أفريقيا.
- من الناحية الاقتصادية، هناك اتفاقات قائمة هي حتى الآن، وليس من الواضح حالياً طبيعة التسويات التي يُمكن أن تتم إذا ما اضطرت الشركات الفرنسية لإيقاف أعمالها في هذه الدول.
- ستكون هناك بصورة أو بأخرى خسارة على فرنسا، لكن ربما لن تكون مبالغ في حجمها.
وبلغت مستويات التجارة بين فرنسا ودول جنوب الصحراء الكبرى في العام الماضي إلى أعلى مستوى لها خلال السنوات العشر الماضية (26.7 مليار يورو، بواقع: 15.9 مليار يورو من الواردات و10.8 مليار يورو من الصادرات)، مشكلة 2 بالمئة من إجمالي التجارة الخارجية لفرنسا في العام 2022. تعود هذه الزيادة في التجارة الثنائية إلى حد كبير إلى زيادة الواردات، خاصة المواد الهيدروكربونية التي مثلت أكثر من ثلثي الزيادة بسبب ارتفاع الأسعار وتداعيات الحرب في أوكرانيا والتي أدت إلى تغيير في التجارة الثنائية.
ومع ذلك، تتمتع منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بمكانة استراتيجية في التجارة الخارجية الفرنسية، لأنها في الوقت نفسه مورد مهم للهيدروكربونات والمنتجات الزراعية والمعادن. و في العام 2022، قدمت المنطقة 11 بالمئة من واردات الهيدروكربون الفرنسية، بحسب بيانات وزارة المالية الفرنسية، التي تشير إلى أن:
- فرنسا تظل مستثمراً رائداً في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا.
- كانت فرنسا تمثل ثاني مستثمر أجنبي في القارة من حيث رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر في العام 2021 بقيمة 60 مليار دولار أمريكي، خلف المملكة المتحدة (65 مليار دولار أميركي).
- ارتفع عدد الشركات التابعة للشركات الفرنسية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بأكثر من الضعف بين عامي 2010 و2020، في حين زاد بنسبة 51 بالمئة فقط في جميع أنحاء العالم خلال نفس الفترة.
- من حيث التدفقات، واصلت الاستثمارات الفرنسية في أفريقيا اتجاهها التنازلي الذي بدأ في العام 2015، بينما لا تمثل سوى 2.5 بالمئة من رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر الفرنسي في الخارج (أي 31.9 مليار دولار أميركي).
وبحسب البيانات الرسمية، فإن تطور التجارة والاستثمارات في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا لا يعكس خسارة في السرعة من جانب الشركات الفرنسية بقدر ما يعكس تطوراً لصالح الإنتاج المحلي.
وبين عامي 2010 و2020، شهد إجمالي حجم الأعمال التراكمي للشركات الفرنسية المنشأة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى زيادة سنوية في المتوسط بنسبة 2.3 بالمئة، بينما انخفضت الصادرات الفرنسية بنسبة 2 بالمئة سنوياً في المتوسط خلال نفس الفترة. وبالتالي فإن تطوير الإنتاج المحلي من قبل بعض الشركات الفرنسية التابعة قد حل محل بعض الصادرات.
العلاقات تصل إلى طريق مسدود
من باريس، يشير الكاتب والمحلل نزار الجليدي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن أفريقيا لطالما كانت هي الحديقة الخلفية لفرنسا؛ وتبعاً لذلك تخصص باريس إدارة خاصة في سياستها الخارجية فيما يتعلق بالعلاقات مع دول القارة، مشيراً إلى أن فرنسا تعج بالخبراء، وتعرف إفريقيا أكثر مما تعرف إفريقيا نفسها “ولكن السياسة التي يتبعها الرئيس إيمانويل ماكرون وقبضته على ملف الخارجية هي التي أفسدت منذ سنوات هذه العلاقة”.
لذلك نجد اليوم أننا “أمام خارطة جديدة لصناع التغيير الجدد في إفريقيا، الذين أصبحوا يؤمنون بعد الحرب في أوكرانيا بأنه لم يعد هناك مكان للعالم للتكتل الواحد وأن العالم أصبحت فيه إمكانية لمحاور كبيرة، وبالتالي تغيرت اللعبة وأصبحت فرنسا في تنافس مع عدة جهات، ليس تنافساً فرنسياً روسياً في أفريقيا فقط بل أيضاً تنافساً فرنسياً أميركياً في القارة، باعتبار أن الأميركان يأخذون مكاناً كبيراً جداأ ولو سراً دون وضوح ودون بهرج إعلامي”، بحسب الجليدي.
ويضيف: “أفريقيا تريد الآن أن تخرج من الهيمنة الفرنسية، وتدخل في تاريخ جديد تصحح فيه الاستقلالات المزيفة.. لذلك نجد ان هناك اليوم تغيراً كبيراً وربما دول أخرى مرشحة للسقوط واحدة تلو الأخرى، لذلك تبدو الحسابات جد معقدة في المنطقة”.
ويشدد الجليدي على أن باريس تعيش “أكبر هزائمها الدبلوماسية”، وبالتالي “هزيمة اقتصادية كبيرة جداً” وخسائر بالجملة وربما أزمة طاقوية تلوح في الأفق، في تعبير أوسع عن أزمة سياسية خانقة ستشهدها فرنساجراء الأخطاء الخارجية، وكذلك أزمة اقتصادية باعتبار أنها تخسر كل المرافق القديمة التي كانت تنقذ بها اقتصادها والتي كانت تعيش بها، ولذلك ربما فرنسا الآن أمام مرحلة حرجة جداً وتتاج إلى مراجعة كبيرة”.