بريطانيا والاتحاد الأوروبي: قصة زواج مصلحة تنتهي بطلاق مُتعثر
- محمود القصاص
- بي بي سي
“جاءت أغلب مشكلات العالم خلال الفترة التي عشتها من أوروبا، وجاءت الحلول من خارجها”، هذه جملة اشتهرت بها رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر، وهي تلخص رؤيتها لأوروبا.
هذه الرؤية ظهرت بجلاء عندما قالت تاشر”لا” ثلاث مرات عام 1990 ردا على اقتراح رئيس المفوضية الأوروبية السابق، جاك ديلور، تحويل المفوضية إلى ما يشبه الدولة عبر ثلاث مؤسسات، وهي المفوضية والبرلمان الأوروبي ومجلس الوزراء.
وكان سبب الرفض القاطع من قبل تاتشر أنها لن تقبل بوجود دولة أوروبية موحدة تفرض سيادتها على بريطانيا. وكانت تردد ان أوروبا “لن تكون أبدا مثل الولايات المتحدة”.
تعكس رؤية تاتشر موقف تيار قوي في حزب المحافظين، سواء بين بعض قيادات الحزب أو بين قواعده الانتخابية، يرفض الاندماج في مشروع أوروبي موحّد، ويرى مصالح بريطانيا ضمن دوائر علاقات أخرى، مثل العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، أو العلاقة التاريخية مع دول “الكومنولث” التي كانت مستعمرات سابقة لبريطانيا.
ويشككك هذا التيار في قدرة أي مشروع لفيدرالية أوروبية على البقاء والاستمرار في ظل الخلافات الثقافية والعرقية والتاريخية الواسعة بين المجتمعات الأوروبية.
غير أن التاريخ يؤكد أن كل ما يحدث في أوروبا يؤثر سواء عاجلا أم آجلا على بريطانيا، كما أن الواقع الجغرافي والمصالح الاقتصادية فرضت على السياسيين البريطانيين منذ عقود الانضمام للمشروع الأوروبي.
الواقع أن بريطانيا مجموعة جزر تقع على حافة القارة الأوروبية، ولا يفصلها عن الأسواق الأوروبية سوى ساعات قليلة لنقل البضائع بالشاحنات أو عبر السفن، على عكس الأسواق الأخرى التي تفصلها عن بريطانيا مسافات شاسعة.
وتضم القارة الأوروبية أكبر تكتل اقتصادي في العالم، وهو السوق الأوروبية الموحّدة، وتستهلك هذه السوق أكثر من نصف صادرات بريطانيا، كما أن الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري لبريطانيا التي تمثل بدورها سوقا ضخمة للمنتجات الأوروبية. وبالتالي يبدو من المنطقي للغاية أن تكون بريطانيا جزءا من هذا التجمع الاقتصادي العملاق.
في بداية الأمر لم تنضم بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة، التي قامت عبر معاهدة روما عام 1957 التي وقعتها ست دول، من بينها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وهي المعاهدة التي مثلت حجر الزاوية في مشروع الوحدة الأوروبية. وسرعان ما أدرك القادة البريطانيون أن خيار الانضمام للسوق الأوروبية هو الخيار الأفضل لبلادهم وحاولوا اللحاق بالقطار الأوروبي.
لكن الزعيم الفرنسي الراحل شارل ديغول رفض مرتين طلب بريطانيا الانضمام إلى السوق المشتركة لأنه كان يرى أن حرص بريطانيا على علاقتها مع واشنطن سيكون دائما أهم من حرصها على المشروع الأوروبي.
غير أن المصالح الاقتصادية والسياسية تغلبت في نهاية المطاف، وتم التوصل لاتفاق بين الجانبين عام 1973 وانضمت بريطانيا للسوق المشتركة في عهد رئيس الوزراء المحافظ إدوارد هيث، ثم للاتحاد الأوروبي لاحقا، ولكنها رفضت الانضمام للعملة الأوروبية الموحدة.
بريطانيا تريد السوق الموحدة، وليس المهاجرين
وبقيت المشكلة الرئيسية بالنسبة لبريطانيا هي أنها تريد فقط سوقا موحدة تستفيد منها كل الدول الأوروبية اقتصاديا بتسهيل التبادل التجاري في السلع والخدمات بلا قيود.
وفي المقابل كان طموح القوى الأوروبية الرئيسة الاخرى، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، أوسع نطاقا. إذ تبنت هذه القوى مفهوم أوروبا الموحدة التي تقوم على عدة حريات: حرية التجارة في السلع والخدمات، وحرية انتقال رؤس الاموال، وحرية انتقال الأفراد. لكن كانت هناك معارضة بريطانية مستمرة لفكرة حرية انتقال العمالة بلا قيود على أساس أنها ستؤدي إلى هجرة أعداد كبيرة من الأوروبيين في الدول الأقل دخلا، مثل شرق أوروبا، إلى دول شمال أوروبا الأعلى دخلا.
بعبارة أخرى رحبت بريطانيا بفكرة السوق الأوروبية الموحدة التي تحقق لها مكاسب اقتصادية واضحة، وعارضت حرية انتقال العمالة التي تلقى رفضا ومعارضة من قطاع مؤثر من البريطانيين. هذا علاوة على رفض قوى سياسية مؤثرة، مثل حزب المحافظين، لفكرة فرض قوانين أوروبية على بريطانيا، وتسويق قادة بالحزب فكرة أن بريطانيا تدفع أموالا هائلة لموازنة الاتحاد الأوروبي، ولاتحقق فوائد تبرر دفع كل هذه الأموال.
وأمام تنامي المعارضة داخل حزب المحافظين لاستمرار بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، قام رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون بالدعوة إلى استفتاء على بقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 23 يونيو/حزيران 2016، وصوت نحو 52% لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد، وهي أغلبية بسيطة تعكس عمق الانقسام في المجتمع البريطاني تجاه العلاقة مع الاتحاد الأوروبي.
وفي 24 يناير/كانون الثاني 2020 وقع رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون مع المفوضية الأوروبية اتفاقية تنظم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي 31 يناير/كانون الثاني 2020 خرجت بريطانيا رسميا من عضوية الاتحاد الأوروبي، وتم الاتفاق بين الجانبين على فترة انتقالية امتدت حتى نهاية عام 2020. ويمكن القول أنه تم الاتفاق على الطلاق بين الجانبين لكن بقيت مشكلات كثيرة ومعقدة تنظر حلولا، حتى بعد الطلاق.
مشكلات الاقتصاد البريطاني
من بين المشكلات التي نتجت عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أنه بات مطلوبا من الشركات البريطانية التعامل مع عدد كبير من الإجراءات والمستندات التي لم تكن بحاجة إليها للقيام بعمليات التبادل التجاري عندما كانت بريطانيا عضوا في الاتحاد. هذا علاوة على القيود على توظيف العمالة الأوروبية، والتي نتج عنها نقص واضح في العمالة في قطاعات هامة، مثل الرعاية الصحية.
ويلاحظ أن اتفاق التجارة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي يشمل فقط السلع ولا يشمل الخدمات، ومنها الخدمات المالية مثل المصارف وشركات التأمين، وهو قطاع بالغ الأهمية للاقتصاد البريطاني، الأمر الذي يعني تعقيدات إضافية لهذا القطاع الحيوي عند تعامله مع أوروبا.
ونتيجة كل هذه القيود والتعقيدات في التجارة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الأول لها، إذ يبلغ حجم التجارة بين الجانبين نحو 550 مليار جنيه إسترليني سنويا، يرى الكثير من الاقتصاديين أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي له آثار سلبية واضحة على الاقتصاد البريطاني.
وحسب تقديرات أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد يؤدي إلى تراجع الإنتاجية في الأجل الطويل بنحو 3 في المئة، وأن جانبا هاما من هذا التراجع قد وقع بالفعل. كما تشير تقديرات مكتب الموازنة البريطانية إلى أن حجم اقتصاد بريطانيا سيصبح أقل بنسبة 4 في المئة مما كان يمكن أن يصل إليه لو بقيت في الاتحاد، وهي خسارة كبيرة تقدر بنحو 100 مليار جنيه إسترليني سنويا.
وفي نفس الوقت فإن الاتفاقات التجارية التي وقعتها بريطانيا مع دول أخرى للتعويض عن خروجها من الاتحاد، مثل الاتفاق مع أستراليا، لم تحقق الهدف المطلوب، ولم تعادل التأثير السلبي لخروج بريطانيا من الاتحاد.
وضع إيرلندا الشمالية
من أبرز المشكلات التي ظلت عالقة بعد توقيع اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وضع إقليم إيرلندا الشمالية، وهو الإقليم الوحيد في بريطانيا الذي له حدود برية مع دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، وهي جمهورية إيرلندا.
وكانت المشكلة دوما أن أي حدود برية بين الإقليم وجمهورية إيرلندا سوف تواجه بالرفض من قبل الجمهوريين المؤيدين لوحدة إيرلندا، بينما الأحزاب الوحدوية الموالية لبريطانيا ترفض أي نوع من الحدود بين الإقليم وبريطانيا، مما يهدد اتفاق السلام في إيرلندا الذي وقع عام 1998 وأنهى ثلاثة عقود من المواجهات الدامية بين المؤيدين للوحدة مع بريطانيا، والمطالبين بالانفصال عنها، وأن تكون إيرلندا موحدة دون أن يخضع أي جزء منها للتاج البريطاني.
غير أنه في 27 فبراير/ شباط تم التوصل إلى اتفاق بين رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في ويندسور قرب لندن لتعديل بروتوكول تنظيم التجارة في إيرلندا الشمالية.
ووصف سوناك الاتفاق بأنه “فصل جديد على صعيد العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد بريكست”، بدورها أشادت فون دير لاين بالاتفاق “التاريخي” الذي من شأنه أن يضمن “علاقات أكثر متانة بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة”.
وينصّ إطار العمل الجديد على إقامة ممرّ “أخضر” معفى من عمليات التفتيش للسلع الوافدة من بقية أنحاء المملكة المتّحدة والمفترض أن تبقى في إيرلندا الشمالية ولا تنقل إلى جمهورية إيرلندا وبالتالي السوق الأوروبية المشتركة.
إلا أن الأمر لم يحسم تماما بعد، فقد قال جيفري دونالدسون زعيم الحزب الوحدوي الديمقراطي، وهو أكبر الأحزاب المؤيدة لبريطانيا، أنه “سيجري تقييما” مع أعضاء حزبه قبل اتخاذ قرار بشأن البروتوكول الجديد. كما أوضح أن هناك بعض الأمور التي لازالت تثير قلقا لدى حزبه، في إشارة لدور محكمة العدل الأوروبية في هذا الاتفاق. أما سوناك فقال “إن النواب البريطانيين سوف يصوتون على الاتفاق في الوقت المناسب”.
وكل هذا يعني الانتظار فترة اخرى حتى يتم حسم هذا الملف، واستمرار البحث عن تسوية مقبولة وعملية للانفصال الذي وقع بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي لكنه لم يكتمل حتى الآن.