التغير المناخي: لماذا تلوذ فراشات نادرة بجبال الألب؟
في صيف عام 2021، كان برنارد أوكنثالر يُعدّ جلسة لتناول مشروبات في المساء بمزرعة أعشاب عضوية يمتلكها في جبال الألب شمالي إيطاليا. وبينما يجهّز للجلسة، رأى برنارد امرأة غامضة تمسك بشبكة في يدها وتتجول في مرج قريب. وتبيّن له بعد ذلك أن هذه المرأة باحثة في علم الأحياء تقوم برصد الفراشات في المنطقة، وأنها كانت بصدد اكتشاف مثير بين الأزهار البرية قريبا من مزرعته. هذا الاكتشاف كان بخصوص نوع مميز من الفراشات يطلق عليه اسم “الأزرق الكبير” وهو من الأنواع المهددة بالانقراض.
وتوصف جبال الألب الأوروبية بأنها “ملاذ للفراشات بأنواعها المختلفة”، حيث أكثر من 250 نوعا بينها المهدد بالانقراض مثل فراشة أبولو، وفراشة الناسك، والأزرق الداموني. وبعض هذه الأنواع من الفراشات يستوطن جبال الألب مثل زفير الألييه الأزرق.
ويعود سبب لجوء الفراشات بمختلف أنواعها لجبال الألب، إلى عدة أسباب منها أن هذه الجبال تحظى بتنوع بيئي ثريّ. لكن يد الإنسان كان لها في ذلك دور أيضا؛ فعلى مدى مئات السنين، استغل المزارعون هذه المراعي الصخرية الفقيرة بالمغذيات في تلك الجبال للرعي والتقاط الكلأ وتخزينه للشتاء. وعبر هذه الأعمال ذاتها، ساعد المزارعون بالسِماد في خلق مراعٍ غنية بالنباتات والفراشات. وتحفل المروج الطبيعية التي لا يفلحها الإنسان بأنواع مختلفة من النباتات النادرة تعادل ثلاثة أمثال نظيراتها في المروج المستزرعة.
يقول برنارد: “هذا الثراء الإيكولوجي هنا غير بعيد منا .. لدينا شيء فريد فيما يتعلق بتنوّع النباتات والحشرات والفراشات”، مشيرا إلى مراعي نبتة كفّ الأسد ذات الزهر الأبيض والأوريغانو البرّي وغيرهما في مزرعته العشبية، بينما تطنّ فوق تلك الأزهار حشرات تحمل اللقاح.
لكن هذه الملاذات على جبال الألب أصبحت مهددة؛ فحتى التغييرات البسيطة نسبيا – مثل استخدام السماد لزيادة إنبات الكلأ- يمكن أن تتسبب في اختلال التوازن البيئي للمروج. وعبر نظرة أقرب للفراشات من النوع “الأزرق الكبير”، يتضّح كيف يمكن لمثل هذه التغييرات أن تؤثر على أنواع فريدة جدا من الفراشات.
في منخفضات أوروبا، تكاد تكون الفراشات من النوع الأزرق الكبير منقرضة، وذلك في الأساس نتيجة لانتشار أعمال الفلاحة المكثفة للأرض، بحسب جوهانا بروبستمير، وهي باحثة مستقلة في علم الأحياء. وكانت جوهانا هي تلك المرأة الغامضة التي تصيد الفراشات قُرب مزرعة برنارد أوكنثالر في صيف 2021.
وفي بقاع مثل هولندا وبلجيكا وشمال فرنسا، تنحسر أعداد الفراشات من النوع الأزرق الكبير، بحسب جوهانا. لكن “في الجبال، الوضع لا يزال أفضل منه في المنخفضات”. وذلك لأن على الجبال ثمة أماكن لم تخضع كليا لأيادي المزارعين. لا سيما وأن الكثير من مراعي جبال الألب تُستخدم في الأساس لرعي الكلأ”.
وتمثل هذه الجبال بدفئها وقلة السماد في مراعيها بيئة مواتية للفراشات من النوع الأزرق الكبير.
وأجريت دارسة حديثة ضمن مشروع أكبر يستهدف رصْد تنوّع الفراشات في شمال إيطاليا. وأظهرت الدراسة الأهمية الكبرى لمراعي ومروج جبال الألب، ليس فقط للفراشات من النوع الأزرق، ولكن لأنواع الفراشات بشكل عام.
وقارن الباحثون في تلك الدراسة بين المراعي والمروج التقليدية وبين البساتين ومزارع الكروم من حيث تنوّع الفراشات. ووجد الباحثون أعلى تنوع للفراشات في المراعي والمروج الطبيعية، بينما وجدوا أقلّ تنوّع للفراشات في الأراضي المستزرعة بنوع واحد من المحاصيل كبساتين التفاح.
وسجّل الباحثون 100 من أنواع الفراشات إجمالا، ما بين 32 نوعا في المراعي الطبيعية، إلى نوع واحد في بساتين التفاح. ما يشير إلى أنه كلما كان التدخل البشري في المراعي -بالسماد والمخصبات- أكثر، تناقصت أنواع الفراشات في تلك المراعي.
ومن دواعي الأسف، أن المراعي والمروج التقليدية حيث تزدهر الفراشات “باتت قليلة، كما أن طرق الزراعة القديمة أخذت في الانحسار” بحسب الباحث إليا غوارينتو. بخلاف السائد الآن من الأراضي المستزرعة والبساتين حيث لا تجد الفراشات بيئة مثالية للتكاثر.
ويشير الباحث هنا إلى ما أسهم به التغير المناخي من إمكانية الزراعة على ارتفاعات عالية عن سطح الأرض (وعلى الجبال) مما أثر على اتخاذ الفراشات لتلك البيئات موطنا لها.
وفي ظل هذا التغير المناخي، اضطرت أنواع من الفراشات إلى الهجرة لمناطق أكثر برودة فوق مرتفعات أعلى. ولكن لأنه لا توجد مساحات واسعة على تلك المرتفعات، لا تجد الفراشات مساحة كافية للعيش فيها.
ومن بين الطرق التي يمكن اتباعها للحد من تناقص أعداد الفراشات المتنوعة في جبال الألب، التعاون مع المزارعين عبر الدفع لهم من أجل الإبقاء على المراعي والمروج بطبيعتها دون تدخل مكثف.
وفي ذلك يقول كاريل سيرني، الباحث في جامعة إنسبروك النمساوية، إن “النباتات والحيوانات تأقلمت على هذه المراعي والمروج الطبيعية منذ آلاف السنين”.
لكن الباحث يستدرك قائلا إن هذا النوع التقليدي من المراعي “لم يعد مجديا على نطاق واسع، لأن طُرق الزراعة التقليدية لم تعد جذابة اقتصاديا. وقد تكون جودة الثمار أفضل في حالة الزراعة التقليدية لكنها أكثر كميةً في حالة الزراعة الحديثة”.
كما اتخذ الباحثون في جامعة إنسبروك خطوات لزيادة الوعي حول الفراشات واحتياجاتها لدى تلاميذ المدارس وسكان تلك المناطق التي تعيش فيها أنواع مختلفة من الفراشات.
وفي مشروع لرصد الفراشات في النمسا، سجل الباحثون أكثر من 100 نوع مختلف من الفراشات. وجرى إدراج أسماء تلاميذ المدارس والباحثين في هذا المشروع.
وجاءت نتائج المشروع متوافقة مع نتائج دراسات أخرى لتؤكد أن تنوع الفراشات يكون في أفضل حالاته في المراعي والمروج الطبيعية بالجبال، بينما يكون في أسوأ حالاته في الوديان المستزرعة.
و”من اللافت للنظر، أن الأطفال كانوا هم الذين دفعوا عائلاتهم إلى الاهتمام بالأمر” بحسب أولريكا تاباينر، الباحثة في جامعة إنسبروك.