من أفضل حاكم بنك مركزي إلى مدعى عليه.. ما قصة رياض سلامة؟
وعلى إيقاع استمرار مسلسل انهيار الليرة اللبنانية إلى مستويات غير مسبوقة، أنهى محققون أوروبيون في 16 و 17 مارس 2023، الاستماع إلى سلامة في لبنان، تحت إشراف قاضي التحقيق الأول في بيروت شربل أبو سمرا، وذلك في إطار تحقيقات استمرت ليومين، حول مصدر ثروته وشبهات غسل أموال في لبنان، وتحويلها إلى حسابات في الخارج.
وقد خضع سلامة لاستجواب دقيق ومركّز على مدى يومين، حيث وجهت إليه مئات الأسئلة، من قاضي التحقيق الأول في بيروت شربل أبو سمرا ومن قضاة أوروبيين، تركّزت حول عمليات تبييض أموال في مصارف أوروبية.
سلامة يصدر بياناً بعد انتهاء التحقيق
وبعد انتهاء الاستجواب أصدر سلامة بياناً، كشف فيه أنه حضر الجلسات كمستمع اليه لا كمشتبه به ولا كمتهم، مشيرا الى أنه أكد خلال الجلسة على الأدلة والوثائق التي كان قد تقدم بها الى القضاء في لبنان والخارج مع شرح دقيق لها.
وأضاف أن العمولات التي تم تحويلها إلى شركة الوساطة “فوري” ليست من مصرف لبنان بل تابعة لأطراف أخرى، وأن الأموال التي حولت إلى حسابه الشخصي، لم يكن مصدرها مصرف لبنان، وأن جميع التحاويل الخاصة به، مصدرها حسابه الشخصي.
وختم بأنه يتعرض لاستهداف وسوء نية من قبل بعض الجمعيات المدنية ووسائل إعلام وسياسيين، وهي حملة شعبوية اعتقاداً منهم أنها تحميهم من الشبهات والاتهامات ويعطيهم عذراً لإخفاقهم في مواجهة الأزمة.
لم يتم إنفاق الأموال على أمور خاصة
وتحمّل جهات سياسية ومحللون ومواطنون في لبنان سلامة، مسؤولية انهيار العملة الوطنية التي تسجل حالياً تراجعات متلاحقة، إذ هبطت في الساعات الماضية الى مستوى 107 الآف ليرة للدولار الواحد في السوق السوداء، حيث يرى هؤلاء أن السياسات النقدية التي اعتمدها الحاكم طيلة السنوات الماضية، هي السبب في ما وصلت إليه البلاد من انهيار مالي، باعتبار أنها راكمت الديون، إلا أن سلامة دافع مراراً عن نفسه، بتأكيده أن المصرف المركزي قام بتمويل الدولة، ولم يصرف الأموال على أمور خاصة.
وتختلف أنواع الملاحقات التي يتعرض لها حاكم مصرف لبنان المركزي، حيث يرتبط النوع الأول بملاحقات ترتبط بمسؤوليته المباشرة عن الانهيار المالي في لبنان وضياع الودائع، فيما يرتبط النوع الثاني بتحقيقات خارج لبنان، مرتبطة بالإثراء غير المشروع واختلاس أموال عبر شركة الوساطة “فوري أسوشييتس” المملوكة لرجا سلامة وهو شقيق حاكم مصرف لبنان، والعمولات التي حققتها الشركة من الأعمال في مصرف لبنان وحوّلتها إلى سويسرا.
وإضافة إلى ذلك يواجه الحاكم رياض سلامة اتهامات بجمع ثروة طائلة في أوروبا، وشراء عقارات فخمة عن طريق إساءة استخدام سلطته.
ادعاء بحق الأخوين سلامة وماريان الحويك
وفي الوقت الذي يلاحق سلامة فيه بدعاوى قضائية خارجية، تقدّمت الدولة اللبنانية منذ أيام، ممثلةً برئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل القاضي هيلانة اسكندر، بادعاء شخصي في حق كل من حاكم مصرف لبنان وشقيقه رجا ومساعدة الحاكم ماريان الحويك، وطلبت توقيفهم وحجز أملاكهم العقارية، وتجميد حساباتهم المصرفية وحسابات أزواجهم وأولادهم القاصرين، لمنعهم من التصرّف بها، حفاظاً على حقوق الدولة اللبنانية.
وادّعاء الدولة اللبنانية على الحاكم سلامة لا علاقة له بالتحقيقات القضائية الأوروبية التي تجري حالياً، فعندما تنتهي جلسات الاستماع إلى سلامة من قبل المحققين الأوروبيين، سيُحدد قاضي التحقيق موعداً لجلسة الاستماع إلى الحاكم، في قضية الادّعاء عليه من قبل الدولة اللبنانية.
وكان سلامة يُعدّ من أبرز حُكّام المصارف المركزية في العالم، بشهادة جهات ومؤسسات اقتصادية دولية منحته الجوائز والأوسمة، وهو حاز عدة مرات على جائزة أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم العربي من EUROMONEY، وجوائز مماثلة من مجلة The Banker، كما حاز لأربع مرات على درجة “A” التي تمنحها مجلة غلوبال فاينانس، لأفضل حكام المصارف المركزية، آخرها في عام 2019، أي قبل شهرين تقريباً من بدء انهيار الليرة اللبنانية.
خبرة سلامة
واكتسب رياض سلامة خبرة واسعة في شركة ميريل لينش بين عامي 1973 و1985، متنقلا بين مكاتب بيروت وباريس، الأمر الذي أدى إلى تعيينه في 1985 نائبا للرئيس ومستشارا ماليا للشركة، وقد شغل هذا المنصب حتى تعيينه حاكما لمصرف لبنان، في الأول من أغسطس 1993 لمدة 6 سنوات.
وأعيد تعيين سلامة لأربع ولايات متتالية في 1999 و2005 و2011 و2017، ومع اقتراب انهاء ولايته في تموز 2023، سيطوي الحاكم عهداً استمر لمدة 30 عاماً، مع تأكيده أنه سيغادر منصبه عند انتهاء ولايته.
ثروة بنحو 150 مليون دولار أميركي
ويصر سلامة على أنه جمع ثروته من عمله السابق طيلة عقدين في مؤسسة “ميريل لينش” المالية العالمية، ومن استثمارات في مجالات عدة، بمعزل عن عمله على رأس حاكمية مصرف لبنان. وهو كشف في بداية عام 2022 أن حجم ثروته الشخصية، يبلغ نحو 150 مليون دولار، مشيراً الى أنه استفاد من استشارات استثمارية وقروض مصرفية، لشراء أحد العقارات الفخمة مؤكداً أنه لا يرى جريمة في ذلك.
ولعقود من الزمن، حافظ سلامة على استقرار العملة اللبنانية واعتبر منقذاً لها، بعدما ثبّت سعر صرفها على 1520 ليرة للدولار الواحد، واصفاً الخطوة بأنها تخلق استقراراً معيشياً، في ظل وجود احتياطات مهمة بالدولار الأميركي لدى المصرف المركزي.
وينخرط منذ العام 2016 وبغطاء سياسي، في هندسات مالية هدفت إلى الحفاظ على قيمة الليرة ورفع احتياطي المصرف المركزي ورسملة المصارف، إلا أن جميع اجراءاته انهارت في نهاية 2019 مع دخول لبنان في نفق الازمة الاقتصادية.
ويرى المستشار المصرفي بهيج الخطيب في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أنه لوضع توصيف واقعي ومحايد لما يجري مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، يجب التركيز على أن القانون لم يكن واضحاً بتحديد مدى استقلالية البنك المركزي، في ما يتعلق بتثبيت سعر الصرف وبإقراض الدولة، بالإضافة الى أن السلطات السياسية في لبنان، أمعنت وعلى مدى 30 سنة بإصدار التشريعات، التي تلزم مصرف لبنان بإقراض الدولة، من خلال القوانين التي كان يصدرها البرلمان اللبناني ولا يزال.
ويلفت الخطيب الى أن الحكومات المتعاقبة في لبنان، أقرت في بياناتها الوزارية كافة، التزامها بتثبيت سعر صرف الليرة، وألزمت مصرف لبنان بتنفيذ هذا التعهد، مما أدى الى استنزاف جزء من الاحتياطي لهذا الغرض، ومن هنا فإنه لا يمكن تحميل مسؤولية ما حصل للحاكم فقط، فهو كان ملزماً بتنفيذ سياسات متمثلة بتشريعات تصدر عن البرلمان، أو مراسيم وزارية تصدر عن الحكومة وبإرادة سياسية عليا، مشيراً الى أن سلامة لم يكن لديه خيار آخر سوى الاستقالة، ليتم استبداله بحاكم آخر ينفذ سياسة السلطات السياسية.
هندسات هدفت إلى تأجيل الانفجار
وأشار الخطيب الى أنه في ما يتعلق بالهندسات المالية فلم يكن يفترض بالحاكم سلامة تنفيذ تلك السياسات، التي كانت تهدف لشراء الوقت، في ظل عدم استعداد الطبقة السياسية الفاسدة لتنفيذ أي برامج إصلاحية، وفي ظل الصراع السياسي الحاد في البلد، مشيراً الى أن الهندسات المالية هدفت الى تأجيل الانفجار ولكنه وقع وبكلفة أعلى.
أما في ما يتعلق بما يوجه من اتهامات الى الحاكم بجرائم مالية، فيرى الخطيب أن ذلك متروكاً للقضاء المحلي النزيه والقضاء الدولي العادل للبت فيه، وبالتالي فإن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وعلينا انتظار نتائج التحقيقات.
مخالفة القانون من جهته يقول الخبير في الشؤون الاقبتصادية الدكتور إيلي يشوعي، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن حاكم مصرف لبنان ارتكب الكثير من الأخطاء وخالف مهمات البنك المركزي، التي تنص على توفير السيولة بالكلفة المناسبة لحفز الاستثمار المنتج، وأخفق في السيطرة على التضخم، كما أخفق مؤخراً عبر منصة “صيرفة”، مشيراً الى أن سلامة يمثل سلسلة من الاخفاقات التي لا تنتهي بدءاً من اخفاقه بالمحافظة على سلامة المصارف اللبنانية وعلى أموال المودعين، وصولاً الى مخالفته قانون النقد والتسليف، عبر الإمعان في اقراض الأموال لخزينة الدولة التي تخضع لإدارة سياسيين معروفين بفن هدر الأمور والمحاصصة.
فشل في تثبيت العملة على 1500 ليرة
ويشرح يشوعي أن سلامة اعتبر نفسه ومؤسسة مصرف لبنان، اقوى من السوق التي تتمثل بسياسة العرض والطلب، ففشل في سياسة تثبيت العملة عند 1500 لليرة للدولار، ولو أنها دامت لأكثر من عقدين من الزمن، معتبراً أن تثبيت العملة اللبنانية عند هذا المستوى، كان أمراً وهمياً وليس أمراً حقيقياً مبنياً على قواعد اقتصادية صلبة. وأكد يشوعي أن أي شخص أو مؤسسة لا يمكن لها التغلب على قوة السوق.
وعما هو متوقع بعد انتهاء جولة التحقيق الأوروبية الحالية، يقول يشوعي أن لا أحد يعرف ما هو المصير الذي ينتظر حاكم مصرف لبنان، مشبهاً الوضع الحالي بالمركبة التي تسير دون فرامل، والتي لا تعرف أين سينتهي بها المطاف، وما هو السيناريو السيء الذي ينتظرها، حيث أنه من الواضح أن قطار المسار القضائي انطلق ولا أحد يستطيع إيقافه.