تبرئة 12 شخصاً بعد 4 قرون على إدانتهم بتهمة «السحر»
ريتشارد مايهيو يقلب التوقعات على عتبة بلوغه القرن
يحتلّ الرسام الأميركي من أصول أفريقية ريتشارد مايهيو، الذي احتفل أخيراً بعيد ميلاده الـ99، حيّزاً من تاريخ البشرية مثل أي شخص تأمل في مقابلته.
يجلس مايهيو إلى طاولة فناء خارج منزله في ضاحية سوكيل، بالقرب من سانتا كروز، ويتكئ إلى الخلف على كرسيه متأملاً حياته الطويلة.
يقول: «سافرتُ 6 مرات في أرجاء الولايات المتحدة. ثلاث رحلات عابراً، وثلاث أخرى عائداً، من نيويورك إلى سان فرنسيسكو. كنت دائم البحث والتفكّر».
كل ما يحتاجه مايهيو الآن، لجهة المواد المرجعية، هو أن يقضي حياته في البحث. عندما يرسم في المرآب المُلحق بمنزله، ويستمع إلى موسيقى الجاز بصوت عالٍ، لكونه يعاني صعوبة في السمع؛ «يمكن للحي بأسره أن يسمع»، وفق ما أخبرتني زوجته روز ماري.
منذ خمسينات القرن العشرين، رسم المناظر الطبيعية المبتكرة بألوان غير طبيعية على نحو متزايد، وفي بعض الأحيان بلوحة ألوانها ذات تأثير حمضي يمكنها أن تهدّئ العين وتؤذيها بالقدر عينه.
عام 2021، خُصصت غرفة كاملة في متحف سان فرنسيسكو للفن الحديث لرسوم مايهيو؛ شملت تبرُّع سيدة من أبرز المؤيدين لأعماله، تُدعى باميلا جوينر، بستة أعمال. ورغم مسيرته الطويلة، فقد شاهد الكثير من الزوار أعماله هناك للمرة الأولى.
ومع ذلك، فإنّ تسمية هذه الفورة المتأخرة من الاهتمام «إعادة اكتشاف»، تعني التغاضي عن نجاحات حققها الفنان طوال حياته المهنية. وقد عُرضت أعماله في سلسلة ثابتة من معارض نيويورك منذ الخمسينات، بما في ذلك معارض «ميدتاون»، وأخيراً معارض «إيه سي إيه» التي لا تزال تمثل الفنان وأعماله. وهو انتُخب عام 1970 عضواً في الأكاديمية الوطنية للتصميم.
لمايهيو، الذي لديه أصول مختلطة من الأميركيين الأفارقة والأميركيين الأصليين؛ جسد قصير قوي ممتلئ، ولحية يعلوها الشيب، وجفون ثقيلة بشدة. دائماً ما تلمس في حديثه ابتسامة خافتة لكن مقهورة. ورغم كبر سنّه، فإنّ طاقته وقدرته على تذكّر التفاصيل مدهشتان.
كان مايهيو من بين أوائل الطلاب السود الذين التحقوا بقوات مشاة البحرية الأميركية عام 1942. يذكر وحشية عملية التدريب الشاقة المعتادة، بصورة خاصة بالنسبة إلى الطلاب السود، ويقول: «لم يريدوا لنا النجاح». وفي عام 1963، ساعد في تأسيس مجموعة «سبيرال» المعنية بالفنون الأميركية الأفريقية، وضمّت شخصيات مثل روماري بيردن ونورمان لويس، لنقاش «إمكان وجود جماليات سوداء بطبيعتها».
نشأ مايهيو في وقت كانت فيه الولايات المتحدة ممزّقة بفعل الفصل العنصري. وُلد بالقرب من أميتيفيل، على الشاطئ الجنوبي في لونغ آيلاند. يقول: «إنه لأمر غريب، لكن أميتيفيل لم تشهد فصلاً عنصرياً مثل المدن الأخرى في ذلك الوقت».
هوية مايهيو الأميركية الأصلية لا تقلّ أهمية بالنسبة إليه، إن لم تكن أكثر، عن هويته أميركياً من أصول أفريقية. وهو يعلّق أنه في تصوّرات الآخرين عنه، غالباً ما تبرز الهوية الأفريقية على قرينتها الأميركية. يشدّد على أنّ ما ورثه عن أسلافه الأصليين ليس التقليد المهني وإنما «الوعي الإبداعي».
يأتي معرض مايهيو في متحف «سونوما فالي» للفنون بعنوان «التضاريس الداخلية». عندما يرسم، يصف نفسه بأنه يلج فيما يشبه إغماءة الذروة، مؤكداً أنّ لوحاته ليست مناظر طبيعية، بل «مناظر ذهنية» لأماكن لا يمكن تصوّرها أو تذكرها إلا في أجواء الخيال.
مغرية محاولة اكتشاف المناظر الطبيعية الهادئة، وربما المبهمة، لدى مايهيو، عبر أصداء تحبسها فترات من تاريخ العبودية في هذه البلاد، وعلاقة العمال السود والملونين بالأرض. في عناوين أعماله السابقة، أشار إلى «أربعين فداناً وبغلة» التي وُعد بها تعويضاً للعبيد المحررين إبان إعادة الإعمار. وفي إحدى المقابلات، تناول زيارته إلى مزرعة عمال سابقة في لويزيانا، متأملاً في الأسرار المظلمة لمناظرها الطبيعية.
لكنه قال لي بكل بساطة إنه ملتزم بالألوان والبصريات والوهم. مثل الرسامين «النَغميَّين» من أواخر القرن التاسع عشر (جورج إينيس له تأثيره الخاص)، يستخدم اللون لاستحضار الفضاء، رغم ميله المنحرف لجعل الخلفيات تنبثق إلى الأمام مع تراجع المقدمات.
يقول: «خلال دراستي في فلورنسا، تعلّمتُ أنّ العقل لا يدرك ما تراه العين». في عام 1960، غادر مايهيو برفقة زوجته الأولى، دوروثي، وطفليهما إينا وسكوت، إلى إيطاليا، حيث درس في أكاديمية «دي بيل أرتي». كان صديقه المقرّب في ذلك الوقت نيلسون شانكس، رسام البورتريه الواقعي الكلاسيكي الذي زار معه المتاحف في جميع أنحاء أوروبا.
مكوثه هناك علّمه أنّ الإحساس الإبداعي «لا علاقة له بالعرق أو بأي ثقافة بعينها». وهو يزعم أنّ «الوعي الإبداعي» (المصطلح الذي يستخدمه كثيراً) هو أكثر ما يتشاركه أعضاء جمعية «سبيرال» حول القضايا ذات الصلة بالعرق.
جرى الاعتراف بمايهيو معلّماً راديكالي النزعة، دافعاً قدماً بمنهج متعدّد التخصص، لم تكن بعض الأقسام الفنية متأهبة له. درس في جامعة ولاية سونوما في سبعينات القرن الماضي، وبنى مع طلابه فقاعة بلاستيكية عملاقة، نُفخت بواسطة مروحة صندوقية، دعا الراقصين والموسيقيين إلى الأداء داخلها، وكذا الخبراء إلى تقييم الأصداء.
أخبرتني زوجته روز ماري بأنه يميل إلى عدم الخوض في ذكر الشدائد التي احتملها، والتمييز العنصري الذي واجهه. وتخمّن أن ذلك قد يكون شكلاً من أشكال حماية الذات. احتجّ عليها أخيراً قائلاً: «لم تكن لدي صراعات!»، مؤكداً على رغبة المعارض في عرض أعماله.
* جوناثان غريفين – خدمة نيويورك تايمز